لم يعد هناكَ ما كان هناكْ

صور جوية نشرها ناشطون للرقة حديثاً

من يرى الصور الأخيرة من الرقة ومن دير الزور، وقبلهما الصور من حلب وحمص وغيرها من المدن السورية، التي تحولت كلها إلى خرائب وذكريات، إضافة لمدينة الموصل في العراق؛ يكتشف بشكل لا مجال للشك فيه أن ثمة عداء متأصلا في نفوس من دمروها، وأحالوها إلى يباب، بعيدا عن الدوافع المعلنة والمصالح الكبرى. إنه عداء تجاه المدن المتمردة على الطغاة، ولكنه لن يجد مايرد به على من يرى ذلك (عداء للعرب السنة).  

لم يكن بالأمر الجديد على الولايات المتحدة من جهة، وعلى روسيا من جهة أخرى، ممارسة عمليات القتل الجماعي، أو الإبادة بمفهومها الواسع. فتاريخ الولايات المتحدة هو عبارة عن تاريخ من الغزو، والاحتلالات، والإبادات الجماعية التي بدأت بعد فترة وجيزة من اكتشاف أميركا، وبداية هجرة الأوربيين الذين تعاملوا بوحشية رهيبة مع سكان البلاد الأصليين، فاستطاعوا خلال أكثر من قرن (نهاية القرن التاسع عشر، 1890) من القضاء نهائياَ على بشر يتجاوز عددهم عشرات الملايين. كما مس تعاملهم الوحشي شعوب العالم في الخارج، من دعمهم لإسرائيل في بلادنا، إلى حروب الهند الصينية (فيتنام)، إلى حروب أفغانستان والعراق في بداية هذا القرن.

أما روسيا فلم يخلُ تاريخها، منذ تأسيسها في القرن السابع عشر وحتى اليوم، من سياسة عدائية تجاه الشعوب الأخرى التي أخضعتها بالقوة. فشعوب دول الجنوب ما زالت تعاني إلى يومنا هذا؛ وحكاية غروزني، المدينة التي دمرتها قوات بوتين عام 1996، صارت بالنسبة له نموذجاَ  للمدن المتمردة. أما أسلافه، ورفاقه السابقين في إدارة  (KGB)، فسجل إبادتهم لم يُكشف كاملا، لكنه يشير إلى حوالي عشرة ملايين من مختلف الجمهوريات الملحقة بروسيا عبر ما كان يعرف بالاتحاد السوفياتي، ناهيك عن تدخلاتها ودعمها لعموم الأنظمة الاستبدادية القائمة على سلطة المخابرات في العالم.

لم تعدم الولايات المتحدة وروسيا أن تجدا نماذج قزمة لهما، تتمثل بالنسبة لروسيا في أجهزة مخابرات النظام وقواته، وعصابات الدفاع الوطني، وميليشيات إيران الطائفية، والتي تشترك في مجملها بحالة من العداء والكراهية تجاه الآخر المختلف دينياَ ومذهبياَ وسياسياَ، لدرجة تصل حد الحقد. أما بالنسبة للولايات المتحدة فوجدت في حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd)، بعد تطعيمه بعناصر وتشكيلات عربية هزيلة، خير من يمكن أن يلعب دور الأداة التنفيذية في انتزاع المدن الواقعة تحت سيطرة داعش.

بعد طرد قوات داعش من الرقة ودخول قوات سوريا الديمقراطية إليها خرجت الصور والأخبار لتحكي القصة باختصار: «لم يَعُدْ هناكَ ما كان هناكْ»، بمعنى لم تعد هناك مدينة اسمها الرقة، فسكانها مهجرون وموزعون بين المخيمات ودول الشتات، وشوارعها ومبانيها على الأرض، ينبعث منها دخان ما تحول فيها إلى رماد، يلونه مقاتلو قسد بألوان فاقعة، أما ما تبقى فهو عرضة للنهب.

ثم ليكمل القصة فيديو ظهر مؤخراَ، بتاريخ 22 تشرين الأول، لأحد قادة الجماعات العسكرية التابعة لوحدات حماية الشعب، يصرخ فيه ويكرر أكثر من مرة، طالباَ من عناصره ألا يشفع أحد لعربي في ديرالزور، تحت حجة قريب أو نسيب أو أي شيء آخر، فكل العرب في المدينة مستهدفون، أي كل المحافظة.

أما الميليشيات الطائفية التابعة لإيران، التي تضم، إلى جانب المتطرفين والموتورين طائفياً من الشيعة، شباناً مهمشين اقتصادياً واجتماعياً من طوائف أخرى، لم تكن ممارساتها أقل بشاعة وحقداَ، إن لم تصل في لحظة ما لحد الفرح والابتهاج بإبادة الناس من جيرانهم ومعارفهم وزملائهم. وما شاهدناه في مدينة حلب خير مثال على عمق الانقسام الذي تغذيه دوائر النفوذ والمصالح والحقد المختلفة: إذ كان قسمٌ من المدينة يدمّر، بينما يحتفل أبناء القسم الآخر في الشوارع والساحات.

لا شك أن الخلاص من حكم تنظيم داعش أمر ينشده كل السوريين، لكن ذلك يجب ألا ينسينا أن داعش جاءت، في أحد أسباب ولاداتها، كرد فعل جنوني على ممارسات الحكومات الطائفية الشقيقة لنظام الأسد في بغداد، حين مارست إقصاء غير مسبوق لمكون رئيسي من مكونات الشعب العراقي، وبتوجيه واستثمار من إيران، مقابل تغاضٍ وتجاهل أمريكي لما يحدث. وحين تمددت داعش إلى سورية ك (نصرة لأهل الشام) لم يكن ليتوقع هؤلاء أن تقهرهم. ليصبح ما كان نتيجة للاضطهاد سبباً له، ويتحول التخلص منه إلى تأسيس اضطهادٍ آخر يفوقه بحق السكان المدنيين الذين ينتمون فقط إلى (العرب السنة).

وبالتالي لا يؤسس الانتصار العسكري الذي تقوده أطراف دولية، بأدوات طائفية أو عرقية، أي إمكانية للخلاص من الجماعات المتطرفة، إن لم يدفعها نحو أطوار جديدة من التطرف والتجذر، ويهيئها للعودة بصور جديدة بعد انهيارها، طالما شعر أبناء المنطقة الأصليين بأنهم الوحيدون المستهدفون.