رحلة إلى كوكب الغوطة الشرقية

عدسة فادي الشامي - خاص عين المدينة

هل تعلّمت في حصة العلوم أن الظمآن لا يستطيع البكاء؟ وهل أخبرك معلم الفلسفة أن البكاء يكون أحياناً بلا دموع؟ وأنه عندما يكون بدموع لا يكون محض بكاء، وإنما إعلان نهاية يوم اعتيادي تحت القصف في الغوطة.

افتحْ غوغل إيرث، ضع غوطة دمشق في مربع البحث، وقرِّب الصورة أكثر ما تستطيع. هذه ليست قطعة من القمر التصقت خطأ بالخريطة، وإنما هي الغوطة الشرقية. وهذه البقع ليست آثار نيازك، ولا فوهات براكين، وإنما آثار الدمار الذي أحدثه قصف الخردة الجوية المسماة مجازاً بالطائرات، والتي عجز العالم كله عن إيقافها على مدار السنوات السبع الماضية. هل شعرت أنك تشاهد كوكباً آخر؟ شعورك في محله إذاً، فهذا ما يشعر به سكان الغوطة الشرقية عندما ينظرون من كوكبهم إلى الكوكب المجاور «كوكب الأرض».

أرسلِوا مسباراً واحداً إلى الغوطة الشرقية وسيخبركم كل شيء عن أصل الحياة في هذا الكون الميت. لا حاجة للذهاب إلى أطراف المجموعة الشمسية، ولا لتفحّص أقمار المشتري بحثاً عن خلية حية هنا أو خلية هناك.

بدأ هنا أصل الحياة، وكانت الأرض مظلمة ساكنة كمستنقع، وعلى سطح المستنقع كان عرش الدكتاتور يُخيّم على كل شيء، ولا يسمح لنسمة هواء أو بصيص أمل بالوصول إلى الأحداق والصدور. وكانت الشوارع مسارات إجبارية للدوران في حلقات الموت من البيت إلى العمل، وكانت الأجساد جثثاً تسير في الزحام، تُحيّي عراب الموت وتهتف له: بالروح بالدم نفديك يا بشار. وهي بلا روح ولا دم، إلا الدّم المستنزف حتى آخر قطرة، والروح التائهة في الظلمة. ثم وعلى وقع نبضات قلوب أطفالنا تفتّق أول برعم للحرية.

والعالم الذي ما انفك يبحث عن حياة في الكواكب الميتة، هو ذاته العالم الذي سمح لكل أنواع الزومبي بالانتقام من أجمل أشكال الحياة في هذه الرقعة الصغيرة من الأرض، التي رفضت أن تتأقلم مع نتن وظلام وتعفن مستنقعات الاستبداد.

الغوطة اليوم هي ثقب الثورة الأسود الذي تكثَّف كل شيء فيه. المكان والزمان تحت حصار الفيزياء، والأرواح تحت حصار الأجساد المحاصرة. فهل جربت أن تصرخ من داخل ثقب أسود؟ سيرتدّ صراخك إلى أعمق أعماقك، ولن يسمعك أحد، وإن سمعك أحد، فهو أنت، أو نسخة منك في مكان آخر من سورية أو من العالم، وفي الحالتين لن يكون للصراخ جدوى. هو أمر يشبه الاختناق، هل جربت الاختناق؟ والغرق في نفسك؟ في آلامك وجراحك؟

هل جربت أن تنسى أنك حزين على عزيز استشهد هذا الصباح، لأنك كنت منشغلاً بحمل عزيز آخر يلفظ آخر أنفاسه. وعندما عدت إلى منزلك المدمَّر، وقفت أمامه مذهولاً صامتاً، ثم جلست على بعض حطامه لتشرب بعض الماء، بعد أن حصلت على الوقت الكافي لتتذكر أنك عطشان، وعندما ارتويت من الماء تذكرت أنك حزين فبكيت؟

لا أحد يستطيع فهم ما يحدث كالذي في قلب الحدث، هناك آلام غير قابلة للكتابة، وصور تستعصي على الوصف من الخارج، لا بد أن تكون جزءاً من الصورة حتى تكون قادراً على وصفها، وعندما تعيش تلك التفاصيل لا تستطيع نسيانها، لأنها لا تكون جزءاً من ذاكرتك فحسب، وإنما جزءاً منك. الأرشيف هنا ليس ملفات مرصوفة على رفوف الذاكرة، تتناول أحدها كزائر مكتبة، وإنما أشياء أخرى، تغير إيقاع القلب والفكر إلى الأبد. أنت شخص آخر الآن، لا يستطيع فهمك إلا من جرب تفاصيلك. يقولون في الأخبار: من سمع ليس كمن رأى، ويقول السوريون في الغوطة: من رأى ليس كمن رأى.

بعد أن قصفت الطائرة منزلاً، أخرجوا من تحت أنقاضه المدمّرة طفلة ناجية. نفضت عن ثوبها وشعرها الغبار، ونظرت إلى الشمس، وابتسمت. الخروج من تحت الأنقاض وقوفاً، الابتسام تحت القصف، ونفض الغبار، معجزات صغيرة تحدث كل يوم على هذه الأرض التي يُوجد عليها ما يستحق الحياة، كما قال محمود درويش. لكن نسي الشاعر أن يُضيف أن على الأرض من يصنعون الحياة، ومن يتمسكون بها، ومن يستحقون كل ذرة أوكسجين منها.