مهجرو الغوطة الشرقية من ضيق الحصار إلى سعة الحياة في إدلب

بعدسة الكاتب من إدلب

تكثُر المقارنات التي يعقدها أهالي الغوطة الشرقية بين معيشتهم السابقة وبين الحياة المفتوحة في محافظة إدلب، وتتعدّد التفاصيل التي تشهد بوناً شاسعاً بين المكانين، إذ تبدأ الفوارق بالظهور فور دخول باصات التهجير إلى قلعة المضيق، أول منطقة تابعة للمعارضة في الشمال، وصولاً إلى التجول بين الأسواق وفي شوارع المحافظة، لتحكي قصة معاناة طويلة الأمد تكبّدها المحاصرون، وانتهت بعد شراء أول سلعة غذائية من محل تجاري كبير في إدلب.

كـ حالِ المئات من أبناء الغوطة الشرقية الذين حملتهم باصات التهجير إلى إدلب؛ شعر «محمد» بزغللة في عينيه وهو يشاهد الأسواق المكتظة، والأنواع التي لا تنتهي من الخضار والفواكه ومختلف الأطعمة. وبينما كان يزرع السوق ذهاباً وإياباً طلب من صديقه «أبو ضياء» أن (يقرصه)، ليصحو من أحلامه العذبة التي لا يُصدق أنها غدت حقيقة لا مجرد تخيلات. «هل أنا في حلم أم في علم، لا أكاد أصدق أني تخلصت من الحصار وعدت إلى الحياة الطبيعية من جديد!».

يقارن الشاب الثلاثيني بين أجواء تلك البقعة المحاصرة التي لا تتعدى عشرات الكيلومترات شرقي دمشق، وبين محافظة إدلب حيث «كل شيء موجود؛ الأسواق المزدحمة، المطاعم الكبيرة، محلات العصائر والكوكتيلات، الأضواء والسيارات، وكل ما يخطر على البال».

الدخول إلى متجر لألواح الطاقة الشمسية كان أول ما فعله محمد، فور قدومه إلى إدلب، سائلاً عن الأسعار، وممتّعاً ناظريه بالمشهد الجميل الذي كان يحلم به في غوطته المحاصرة، إذ كانت هذه الألواح حكراً على طبقة من العسكريين والملّاك «تفاجأت بالمنظر حقاً. فالأسعار كانت رخيصة للغاية مقارنة بها في الغوطة، أضحى باستطاعتي محو 5 سنوات من العتمة قضيتها هناك، عن طريق استخدام الطاقة الشمسية في الحصول على الكهرباء».

في سنوات الحصار التي طالت ككابوس لا ينتهي؛ كافح الآلاف من سكان الغوطة الشرقية للبقاء على قيد الحياة. وفي ظل انعدام معظم مقوماتها صنع الأهالي حياتهم الخاصة المعتمدة على ما توفره أرض الغوطة من خيرات، إضافة للسلع والمواد الغذائية ذات الأسعار الباهظة، والتي يصعب الحصول عليها حتى وإن توافر المال «كانت تدخل بالقطارة وفي أوقات متقطعة»، يتذكر «سليم» بعض تفاصيل حياته السابقة التي قضاها محاصراً في الغوطة، وهو يتسوق بأريحية واضحة في سوق مدينة إدلب. «بكم البصل يا عم؟» يسأل سليم الذي علت الدهشة وجهه حين أجابه البائع «بـ 70 ليرة»، كانت «البصلة الواحدة بـ 900 ليرة في زمن الحصار»، قال في نفسه بعد أن أدرك أن للنقود هنا قيمة.

اشترى سليم مختلف أصناف الفاكهة والخضار التي طالما حُرم منها في الغوطة. أكملَ جولته ليقترب من دوار الكرة في مدينة إدلب، حيث استوقفه منظر الفروج المشوي، وهو يدور ويدور داخل الشواية الكهربائية، أول ما خطر في باله ذلك المشهد من إحدى حلقات (بقعة ضوء)، الذي يروي حكاية شاب سوري مع الفروج المشوي، إذ كان لعابه يسيل لهول المنظر، ابتسم للذاكرة القديمة وأكمل طريقه.

ليس مجرد الحصول على الطعام اللذيذ هو ما يُسعد المهجّرين، وإن كان أحد أكبر سعادتهم؛ بل ضجيج الحياة وصخبها في إدلب، من أصوات زمور السيارات إلى ازدحام المئات عند دوار الساعة في المدينة، وصولاً إلى المحلات الضخمة المصطفة في مدينتي سرمدا والدانا على الحدود مع تركيا.

يروي «محمود» تناقض المشاعر في داخله منذ قدومه إلى إدلب، في كل مرة يتذكر بيته في الغوطة يشعر بألم من استيقظَ من سبات عميق. أجواء الحصار الشبيهة بالمعتقل، والتي لم تنته بشكل كامل، على الرغم من انغماسه في الحياة عقب استقراره في إحدى مدن المحافظة، تطغى على جلسات الحوار مع أصدقائه. لتبدأ رحلة الحنين إلى بيته المليء بمئات الذكريات. الحنين والألم يكادان يقتلانه، لكنه سرعان ما يجد نفسه غارقاً في حياته الجديدة «الحنين يصغر مع البعد وطول الزمن»، يقول، ثم يكمل «على الحياة أن تستمر، ولكن الغوطة جرح لن يندمل».

يأمل أهالي الغوطة في الحصول على حياة مستقرة في منفاهم السوري، وإن كان العديد منهم بدأت تُساوره الرغبة في كسب متعة أكبر ومعيشة أرحب، هناك خلف الحدود السورية حيث تتسع الأراضي التركية بشكل يخطف أنظار الجميع.