العبور إلى تركيا (1 من 3)
سوق تهريب البشر في إدلب

كراغبين في عبور الحدود إلى تركيا بطرق غير مشروعة، نحن زبائن أو ركاب بالنسبة إلى المهربين أو الوسطاء، يتعاملون معنا بعيداً عن أي اعتبارات إنسانية أو اجتماعية، بل كناسٍ لديهم الكثير من المال واستعداد دائم لدفعه، رغم أن المهربين والوسطاء، عادة، لا يحدثوننا إلا كمن يحاول مساعدتنا لسبب إنساني أو اجتماعي.

يقصد إدلب، منذ سنوات، الكثير من الراغبين في الذهاب إلى تركيا من كافة مناطق سورية، خاصة من دير الزور والرقة وحلب. وتحاول الحكومة التركية، دون التزام صلب، في المقابل، منع أولئك من اجتياز حدودها إلا في حالات استثنائية. لكنها شددت في السنة الأخيرة على إغلاق الحدود، بالتزامن مع بناء جدار إسمنتي يفصل الأراضي السورية عن التركية.

في السابق كان يتخلل عمليات التهريب احتيال من جهة المهرب أو «الراكب»، كأن يرفض الأخير، بعد أن يصبح في تركيا، دفع المبلغ المتفق عليه للمهرب، أو أن يتوارى هذا عن الأنظار بعد أن يأخذ المبلغ من الراكب، أو أن يلجأ إلى تهديده أو الضغط عليه لمعاودة محاولة اجتياز الحدود معه، في حال أمسكت الجندرمة التركية بهما.

وبطبيعة الحال، تنتمي غالبية المهربين إلى أهالي المناطق الحدودية. وهي مناطق ريفية لا يقصدها الزبائن مباشرة لقلة معرفتهم، ولندرة خدمات السكن والتنقل والتبضع والاتصال فيها. وعادة ما يكون استقرارهم في المراكز الحضرية، حيث تنامت مع الزمن فئات تؤمن لهم الخدمات، بالإضافة إلى كفالة المبلغ المتفق عليه للتهريب، عن طريق علاقتهم بالمهربين والركاب على حد سواء. أدى كل ذلك إلى ازدهار سوق خاصة للتهريب، يستثمر فيها المهربون إلى جانب عملاء ووسطاء وسائقين وأصحاب مكاتب عقارية، وأي شخص يعيش في إدلب ويعرف أحد المهربين، الذين جرى العرف بينهم على تحديد مبلغ خاص لقاء جمع الزبون بالمهرب، يتراوح بين 50 و150 دولاراً أميركياً. يحتل المهربون في تلك السوق، وقبلهم الأدلاء (يتراوح أجر الدليل الذي يقود الركاب عبر الحدود بين 50 إلى 100 دولار)، المرتبة الأولى على سلم افتراضي للرأفة بالركاب، من جهة ابتزازهم أكبر قدر من المال، قبل ضمهم إلى مجموعة من الركاب للعبور بهم إلى تركيا.

دون تخطيط مسبق، وجدت نفسي مع مجموعات من الركاب وسط سوق التهريب. وعرفت، في ما بعد، أن جميعنا يعي بطريقة غائمة أنه يقع تحت وطأة الربح الفاحش الذي يحدده المستثمرون في هذا السوق لأنفسهم. لكن مع تراكم محاولاتي الفاشلة للعبور، والعلاقات –نتيجة ذلك- مع المهربين والأدلاء في مراكز احتجاز الجندرمة، والوسطاء في مناطق حضرية في إدلب، اتضحت لي الكثير من أساليب السوق.

تتغير تسمية الطريق الذي يسلكه الركاب بتغير المنطقة أو الطريقة التي يجتازون عبرها، فهناك طرق حارم والعاصي والقطن والجدار والزحف والركض والمشي الطويل والتركتور والإزن (الإذن) والبوابة... ويتحدد سعر الطريق بحسب المشقات التي سيواجهها الركاب أثناء التهريب، ونسبة النجاح المحتملة للعملية. فيكلف طريق حارم، المراقب بشدة، الحد الأدنى للأسعار بمبلغ 300 دولار عن الراكب، بينما تتربع البوابة على قمة الهرم بـ3000 دولار، ويجمع بين الطرق التي ما دون الألف دولار أن المهربين «يفصلونها» بـ250 دولاراً على الوسطاء. على أن لهفة الزبون للوصول إلى تركيا، وجهله، وثراءه، أمور تتدخل كثيراً في تحديد أسعار الطرق، وكذلك درجة العناية بالمجموعة، وعددها. فيما يرفع نجاح أحد المهربين في إدخال مجموعة ركاب سعر الطريق الذي يسلكه لأيام، ويدفع المزيد من الزبائن إليه، إلى حين تيقنهم من دور الصدفة في نجاحه، ووقتها يكون قد صعد نجم مهرب آخر.

بيع الركاب أمر معروف في السوق، الأمر الذي وقعتُ ضحيته مرة مع إحدى المجموعات. إذ تقاضى منا أحد الوسطاء 500 دولار عن الراكب، وأوهمنا أنه سيسلمنا للمهرب، ليتضح في ما بعد أن الآخر وسيط كذلك، اشترانا من الأول بـ400 دولار، دفع منها للمهرب 250 فقط، ووضعنا احترازياً ليومين في قرية حدودية صغيرة لضمان عدم اتصالنا بغيره. وبيع الركاب أحد الأمور التي سوت الاتفاق عليها طبيعة السوق والمستثمرين فيه، إذ إن لأي وسيط ثقة تامة بأي وسيط آخر أو مهرب، من ناحية إخفاء الأسعار الحقيقية للطرق عن زبائنه الذين يخبرهم، بنوع من المكاشفة المفتعلة، أن أرباحه لا تتعدى الـ50 دولاراً فقط عن الراكب، يصرف منها على شؤون سكنهم وطعامهم وذهابهم إلى الحدود.

لكن الطريف في تلك المكاشفة أن المهرب أو الوسيط يتناول فيها، كنوع من اللازمة، شتم المهربين والسماسرة وكشف أساليبهم المعروفة بالاحتيال..!