نظام الأسد و «قسد» يتسابقان على العشيرة بصورتها المتوهمة

متداولة لشيوخ بعض العشائر مع قادات قسد

تجدد في بداية شهر أيار تنافس قوى الأمر الواقع في محافظة دير الزور، نظام الأسد و"قوات سوريا الديمقراطية (قسد)"، إظهار تأييد وولاء المجتمعات المحلية لسلطتيهما في المناطق التي يسيطران عليها في المحافظة، من خلال عقد مؤتمرات واجتماعات لعدد من شيوخ ووجهاء العشائر في قرية جرمز وبلدة عين عيسى بذات اليوم. 

سبقت تركيا أيضاً نظام الأسد ومجلس سوريا الديمقراطية لكسب هذا التأييد، والاستحواذ على تمثيل عشائر محافظة ديرالزور، حيث أعلنت أواخر عام 2018 عن تشكيل "المجلس الأعلى للقبائل والعشائر السورية"، والذي افتتح مقراً له في مدينة أعزاز.

لا يحتاج الأمر إلى الكثير من الجهد لأي متابع لاستنتاج الغاية من هذه المحاولات وتوصيفها؛ إذ أنها ليست أكثر من مجرد محاولات للاستحواذ والسيطرة على تمثيل عشائر محافظة دير الزور من جهة، إضافة إلى اختزال هذا التمثيل بفئة شيوخ ووجهاء العشائر دون سواهم.

وفي الحقيقة لا تبدو هذه المحاولات جديدة وغريبة في الحالة السورية، إذا ما علمنا أنها مرتكزة إلى نظرة استشراقية تقسم المجتمع السوري وفقاً لبنى وجماعات أهلية تقليدية، عشائرية وعرقية ومذهبية، ولطالما عملت السلطات السياسية والقوى العسكرية المتعاقبة على البلد عموماً، ومحافظة دير الزور خصوصاً، التي تصنف كمنطقة عشائرية، انطلاقاً من هذا التقسيم، إذ تنشط اليوم كذلك منذ منتصف شباط الماضي، عدة منظمات ومؤسسات أمريكية وأوربية، مهتمة بمعرفة تفاصيل عن عشائر منطقة الجزيرة السورية لذات الغاية والأهداف.

تكمن المشكلة اليوم في مستويين اثنين؛ أولهما الاعتقاد السائد عن مناطق العشائر في دير الزور، بأنها ليست أكثر من مناطق لجماعات أهلية تنتظم سياسياً وفق منظور عشائري تقليدي عام جوهري وثابت، ودون أدنى اهتمام لمعرفة وتحليل التغيرات البنيوية والاقتصادية التي طرأت على تلك البنى الأهلية منذ ما يقارب قرن مروراً بعقود حكم نظام البعث ونظام الأسدين، إضافة إلى التغيرات التي حدثت خلال مرحلتي الثورة والحرب.

ومن ثم مرحلة الصراع الاجتماعي-الاقتصادي والسياسي في المنطقة، والتي قوضت من سلطة وسطوة العشيرة إلى حد كبير، وحولتها إلى سلطة اجتماعية رمزية في أحسن أحوالها، إذ أدت الانقسامات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة داخل العشيرة إلى ظهور أفراد ومجموعات مركبة ومتقاطعة، ومتفاوتة في المستوى التعليمي والثقافي، ومختلفة في المصالح الاقتصادية، ومتعددة الخيارات السياسية، وهي متنافسة أحياناً فيما بينها وفقاً لهذه الاعتبارات. 

وثانيهما أن الواقع الحالي المتشظي للبنية الاجتماعية في "منطقة العشائر"، صحيح أنه يمنح إمكانية التغلغل في شبكاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للعديد من القوى الساعية إلى الضبط والسيطرة على البنية الاجتماعية في المنطقة من خلال إعادة بناء شبكات المصالح والعلاقات الزبائنية اعتماداً على الرابطة العشائرية- إلا أن محاولات إعادة إنتاج العشيرة بنمطها القديم انطلاقاً من معطياتها الحالية، خصوصاً من قبل نظام الأسد صاحب الخبرة الجاهزة والنمطية في هذا المجال، ومجلس سوريا الديمقراطية الذي يحاول استنساخ تجربة النظام حيال المجتمع المحلي في مناطق سيطرته بمحافظة دير الزور، عدا أنها تحمل تناقضاً فاقعاً، فإنها في ذات الوقت تعكس نوايا قوى الأمر الواقع، نظام الأسد ومجلس سوريا الديمقراطية، عن الشكل السياسي المرسوم في مناطقهما، وحدوده المسموح بها.

وعلى الرغم من أن هناك عدد من شيوخ ووجهاء، قدامى وجدد، هم على استعداد للعب هذا الدور أملاً منهم باستعادة الدور التقليدي أو تثبيت أدوارهم الجديدة، بذات الأدوات والوظيفة لحيازة وظائف ومكاسب في واقع أمسى فيه استعادة الماضي ضرباً من المستحيل، لكن هذا الواقع المتغير باستمرار الذي تشهده المنطقة منذ بداية الثورة السورية، فسح مجالاً عاماً للأفراد والجماعات، التي ما زالت تتشكل سياسياً وثقافياً، وفتح آفاقاً متعددة لأبناء المنطقة لبناء وتشكيل علاقات أكثر تطوراً، قائمة على التشاركية وفقاً لمعايير ومصالح الأفراد والمجموعات، وهو ما يتجلى في العديد من حالات النقد لتلك المحاولات، ومختلف طرق التعبير والاحتجاج التي تشهدها المنطقة حالياً.

ثمة اليوم أطراف محلية وإقليمية ودولية، كنظام الأسد ومجلس سوريا الديمقراطية وغيرهما، يتعاملون مع مجتمع محلي شديد التعقيد والتركيب والتوتر انطلاقاً من بعد واحد، عشائري، سعياً لتحقيق أجندات وأهداف خاصة، وبقدر ما يبدو الإصرار على هذا الشكل من التعاطي بائساً وساذجاً، فإنه خطير أيضاً، حيث من المحتمل، في ظل التوترات والمعضلات التي تهدد المنطقة واستقرارها، أن يعيد تكرار المآسي على حساب العديد من أبناء المنطقة الذين ضحوا بالكثير من أجل أن يستحقوا امتلاك حرياتهم وحياتهم وخياراتهم.