صورٌ من أرض الخلافة

في مسكنة، ووقت صلاة الظهر، يهيم مئات المتهرّبين من الصلاة على وجوههم، توارياً من الحسبة. وتعدّ تكبيرة الأذان اللحظة صفر لانطلاقة الفرار من المدينة عبر طرقٍ فرعيةٍ بعيداً عن حواجز التنظيم. إلى البرّ القريب أو شاطئ البحيرة أو خلال مقطعٍ آمنٍ من الطريق الرئيسيّ المعبّد، تسلكه السيارة ذهاباً وإياباً حتى انقضاء الصلاة. وتتيح الدراجات النارية فرص هروبٍ أفضل وإمكانات مناوراتٍ عاليةٍ في الانعطاف في ممرٍّ ضيق، أو الكمون أو تغيير الاتجاه. وفي المرّات القليلة من سوء الحظ، عندما تقف سيارة الحسبة وجهاً لوجهٍ أمام الدرّاج الهارب، تكون الحجة سريعة: "لفيت لألحق الصلاة". وعندما ينظر الشرطيّ الدينيّ إلى ساعته للتأكد من صدقية الادّعاء، يعالجه الدرّاج بإلحاح: "خليني ألحّق الصلاة يا شيخ!".

***

شعر سكان الميادين، بعد عزل رئيس الحسبة المصريّ، بشيءٍ من الارتياح، فقد كان يسومهم سوء العذاب. في جولاته اليومية في السوق، كان "المحتسب" لا يروي غليله إلا بإلقاء القبض على أحدٍ ما، أو تقريع آخر بأشدّ العبارات قسوة، أو تشغيل عصاه على أكفّ بعض العامة. فـ"دول مش مسلمين"، كما يؤمن المهاجر المصريّ، وبـ"العصاية بس ممكن يتعلمو شرع ربنا". ولكن، لقد نالت منه شكاوى السكان إلى "الوالي" أخيراً، فعزله عن إمارة الحسبة ليصبح شرطياً عادياً فيها، لا يملك حتى أن يفتش جيباً مشبوهاً بعلبة تبغٍ إلا بأمر، أو حتى أن ينهر رجلاً يمشي مع زوجته: "يا بني آدم.. دي مراتك وانت مطلّعها كده بالسوق؟!!".

***

كيف جــاءت الأركيلة بين الأغراض؟! يعاتب (م) زوجته، على الطريق بين الرقة والطبقة. وقبل حاجز الدولة بمئتي مترٍ تردّ الزوجة بأنها حاولت أن لا تترك شيئاً مهمّاً في البيت. يستشيط الرجل تذمراً على التصنيف العشوائيّ لسلم أهمية الأشياء لدى زوجته، لكنه يضطرّ إلى السكوت عندما لاحت الوجوه على الحاجز. دقائق قليلةٌ من نبش الأغراض ويقبض أبو مريم التونسيّ على عنق الأركيلة وعلى قلب الرجل في ذات الوقت. "إيش هذا يا شيخ؟" يسأل التونسيّ مسروراً لاكتشافه الجريمة. يتلعثم (م) بينما تُقذف الأركيلة إلى الأرض، فيستجمع شجاعته: "شيخ.. أنت طبشتها.. مو خلاف.. لكن ربعك ما يعملون هالشي". يستغرب التونسيّ "كيف يعني؟". "بحارتنا من أسبوع مسكت الحسبة زلمة يأركل قدّام بيته. كسروها وضربوه. راح اشتكى. اعتبره القاضي يأركل ببيته وحكم له بأركيلة جديدة". يقاطعه التونسيّ: "أنت تكزب.. تكزب يا شيخ.. يلا يلا معايا". يتدخل مهاجرٌ آخر ليستجلي أمر الجدال، فيوضح التونسيّ أن هذا الفاسق يريد "أركيلة ومعسل"، ويقول إن "الأخوة بالرقة يوزعوا أراكيل عالناس". ينفي (م): "ما قلت هيك! أنا قلت القاضي عوّض الزلمة بس لأنه كان يأركل تقريباً بالبيت". يأتي مهاجرٌ ثالثٌ وتُشرح له القصة من جديدٍ بأن (م) لن يتحرّك من هنا إلا إذا قدّمت له الدولة "أركيلة ومعسلاً وناراً مشتعلة أيضاً!". ليلاً، في زنزانة "الدولة"، يجترّ (م) غضبه على زوجته ومن نفسه لأنه لم يلتزم بالحكمة الرائجة: "لا تكثّر كلام عالحاجز. وشو ما قالو قول لهم صح صح، والله يهدينا وإياكم يا شيخ".