ريف حمص الشمالي خارج حسابات الحكومات والمنظمات والنخوة الشعبية

مهجرو حمص في مدرسة الصناعة بالاتارب - خاص

تزاحمت وسائل التواصل الاجتماعي على نشر صور ومقاطع فيديو ومناشدات لأطفال ومدنيين من ريف حمص الشمالي «تُركوا لقدرهم» بعد تهجيرهم القسري، بلا مأوى أو طعام أو طبابة. وأظهرت تلك الصور والمقاطع علامات اليأس والخذلان التي علَت وجوههم، والدهشة لغياب المنظمات الداعمة أو فرق الاستجابة الطارئة أسوة بسابقيهم من المهجرين.

تلك الحملات والمُناشدات لم تُغيّر في واقع الحال من شيء، فما زال آلاف المُهجّرين يسكنون في العراء، وفي أفضل الأحوال في مراكز إيواء جماعية كالمساجد والمدارس وحتى الصوامع بعد وصولهم إلى محافظة إدلب، إثر رفض الحكومة التركية وفصائل درع الفرات استقبالهم بحجة غياب التنسيق، وافتقار المنطقة لمراكز إيواء تستوعب الأعداد القادمة، فاكتفت باستقبال الدفعة الأولى وعددها (3390) مهجراً، والتي خرجت من ريف حمص في 7 من أيار الحالي ليسمح لها بالدخول بعد يومين من وصولها إلى معبر «أبو الزندين» بحجة عدم التنسيق.

أُغلق المعبر في وجه باقي الدفعات، ولم يُسمح لهم بالدخول إلى مدينة الباب رغم انتظار القافلة الثانية لأكثر من ثلاثة أيام بين طرفي المعبر، وأتى الأمر أخيراً بالرفض. توجهت الدفعات إلى قلعة المضيق في ريف حماه ودخلت إلى محافظة إدلب، «تفاجأنا بالشي الي صار، ما معنا خبر أنو تركيا ما بدها تدخلنا، قالولنا انو كل شي جاهز وانو الاتفاق تركي روسي» يقول أبو عبدو (أحد المهجرين)، الذي أخبرنا أن أكثر من 2500 مهجراً وصلوا إلى معبر «أبو الزندين» ووُضعوا في محطة وقود مهجورة، نساء وأطفالاً وشيوخاً ومصابين دون طعام أو شراب، فقوات النظام سمحت لصهريج مياه الشرب بأن يأتي لساعة واحدة في اليوم، لم يكن هناك حمامات ولا مياه أيضاً، وكان عناصر الشبيحة والأمن يُحيطون بالمكان. الرجال لم تنم وهي تحرس صغارها ونساءها بسلاحها الفردي الذي سمح للمهجرين بأخذه «ايدنا عالزناد، كنا متوقعين الموت بأي لحظة».

لم تفلح كل المناشدات والمفاوضات في السماح لهم بالدخول، أصاب الجميع حالة من اليأس «كل سنوات الحصار لا تعادل هذه الأيام»، ولم تُجدِ مظاهرات الناشطين بالضغط على الأتراك والفصائل، وارتفعت الأصوات هذه المرّة بإعلان الإفلاس والتبعية، فـ«وهم الانتصار والنشوة الذي عاشه الناشطون في الشهرين الماضيين، خلال تهجير أهالي الغوطة، تكسّر على أسوار حمص» يقول الناشط أسعد الخطيب، والذي أرجع الأسباب للاقتتال الحاصل بين الفصائل وضعفهم وتبعيّتهم، كما اعترف بضعف الاستجابة من الناشطين والمدنيين هذه المرة، فالمظاهرات كانت خجولة، ربما أدركوا أن لا جدوى منها أخيراً!

استقبلت إدلب الدفعات المتبقية من مهجري ريف حمص والبالغ عددهم (32258)، توزّعوا على أكثر من 20 منطقة ومركز إيواء ومخيم مؤقت، ونتيجة توالي وصول قوافل المهجرين منذ بداية 2018 واستقبال أكثر من 300ألف مهجر من ريفي إدلب وحلب الجنوبيين، و118292مهجراً من الغوطة الشرقية وجنوب دمشق وريف حمص، استنفدت المنظمات الإنسانية كل طاقاتها وغابت الخدمات الضرورية عن مراكز الإيواء المكتظة (إن وجدت)، واحتجّت المنظمات بغياب التنسيق وعدم وجود الإحصائيات إلّا أن «منسقو الاستجابة في الشمال السوري» فنّدت هذه الادعاءات، وقالت إنها قدّمت إحصائيات دقيقة لجميع المنظمات بالأعداد والأعمار والحالات الصحية! وقال منسقو الاستجابة أن 60% من المهجرين لا يتوفر لديهم ثمن وجبة إفطار خلال شهر رمضان، في حين اكتفت حكومتا الإنقاذ والمؤقتة بالمشاهدة من بعيد، وضعُفت الاستجابة الشعبية التي ساعدت خلال الأشهر الفائتة بحلول جدية وسريعة.

أنس العبارة من مدينة «الحولة –تلدو» استغرق وصوله إلى قلعة المضيق أكثر من 40 ساعة في الدفعة الخامسة ليحظى بخيمة في مدرسة الصناعة في الأتارب، أما أبو أحمد من نفس المدينة فتخلو خيمته حتى من الحرامات والإسفنجات، لا ماء ولا طعام ولا أدوات طبخ، «طالبناهم بإغاثات وما لبونا، ما بيكفي الوجع الي عشناه عالطريق» يقول الرجل الذي أخبرنا أن الفصائل العسكرية الموجودة في إدلب أخذت بعض العناصر وعائلاتهم المنتمين لهم أو المرتبطين بهم بعلاقات قديمة، وتركوا الباقين لقدرهم.

ما يحدث لأيقونة الثورة السورية (حمص) إمعان في الذلّ والإحباط، إذ جرى، منذ البداية، تصوير الضابط الروسي وهو يُملي على الفصائل شروط تسليم المنطقة والأسلحة الثقيلة، ويضعهم أمام خيارات التهجير أو البقاء في «حضن النظام» أو الموت وتدمير المنطقة، لتكتمل فصول معاناتهم على حاجز ملوك والسمعليل وما تعرضوا له من تفتيش وإهانات وألفاظ نابية وإشارات سيئة في الطريق الذي سلكته الحافلات عمداً بين القرى العلوية، ثمّ منعهم من دخول أراض سورية، وما يحصل الآن لهم من جوع ويأس وذل، دفع بعضهم للحديث عن العودة إلى نظام الأسد، آخرون أظهروا ندمهم على خيارهم الخاطئ الذي اتخذوه بترك مدنهم وبلداتهم، أما الباقون فقد ناشدوا عبر مقطع فيديو «أهل الخير» لا «المنظمات التي وصفوها بأصحاب الشعارات الكاذبة» لمساعدتهم و الوقوف إلى جانبهم، ليصل الحال بأحدهم أن يطلب ممن لديه القدرة أن يأخذ أطفاله قبل أن يحترق قلبه عليهم «عندي هالطفلين تعوا خدوهم ولا شوفهم عم يموتوا قدامي».