روسيا بوتين بوصفها داعش أخرى

يُجمع المحللون للسياسة الروسية الهجومية، في السنوات الأخيرة، على أن أحد أهم روائزها هو الإحساس الروسيّ بالمهانة والإذلال القوميين إزاء الغرب، منذ تفكك الإمبراطورية الروسية في مطلع تسعينات القرن العشرين. وسواء في تصريحات قادة الدولة أو الإعلام، يظهر هذا «الجرح القومي» بصراحة: فالغرب الذي خرج منتصراً من الحرب الباردة على الكتلة الشرقية التي كانت تقودها موسكو، لم يراع، منذ ذلك الحين، ما تراه روسيا مصالح أمنها القوميّ وكرامتها القومية. فتم ضم عدة دولٍ من توابع موسكو سابقاً إلى الحلف الأطلسي و/أو الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن ضم ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية. بل إن الولايات المتحدة تمادت وصولاً إلى نسج علاقاتٍ مميزةٍ مع دولٍ كانت جزءاً من الإمبراطورية الروسية حتى قبل قيام الاتحاد السوفييتي، كأذربيجان وجورجيا وأوكرانيا وغيرها.

وفي الأصل كانت تتنازع روسيا، تاريخياً، مشاعر متناقضةٌ تجاه أوروبا، أو «الغرب» بصورةٍ أعم. وهي تتراوح بين الإعجاب والرغبة في بلوغ تقدمه الحضاريّ، والشعور بالعزة القومية المترافق مع الشكوى من أنه، أي الغرب، لا يتعامل بنديةٍ معها، وما ينتج عن ذلك من شعورٍ بالظلم والرغبة في الانتقام.

المسلك السياسي لروسيا، منذ بداية حكم فلاديمير بوتين، يتطابق تماماً مع هذا المخطط، الذي هو نفسه تقريباً لدى تيار السلفية الجهادية العالمية: الذات الإسلامية الجريحة في كرامتها أمام سيطرة الغرب العالمية، سواءً على مستوى القوة السياسية–الاقتصادية–العسكرية، أو على مستوى منظومة «القيم الثقافية الغربية» التي تقدم نفسها على أنها «قيم إنسانية عامة» (قيم الحداثة) يجب على جميع الأمم الأخذ بها.

يشكل تفكك وانهيار دولة الخلافة العثمانية، من هذا المنظور، نقطة الانعطاف الكبرى في إيديولوجيا السلفية الجهادية، إذ انتقل عالم المسلمين من إمبراطوريةٍ عالميةٍ مترامية الأطراف، كانت الأولى قبل صعود نجم الإمبريالية البريطانية، إلى دويلاتٍ صغيرةٍ كثيرٌ منها تحت حكم الاستعمار الغربيّ، مع عدم حدوث تغيرٍ إيجابيٍّ بعد انتهاء الحقبة الاستعمارية، وصولاً إلى يومنا هذا.

هذه هي المظلمة الكبرى التي تنهل السلفية الجهادية العالمية من نبعها. والحقّ أن الغرب لم يوفر جهداً، بسياساته الدولية، لتعميق هذا الجرح النرجسيّ لدى المسلمين. وكانت سياساته المنحازة إلى إسرائيل، منذ قيامها، من أبرز العوامل الاستفزازية لمشاعرهم. وانضافت إليها اليوم النكبتان السورية والعراقية لتزداد أسباب النقمة والرغبة العدمية في التدمير. هذا هو تعريفٌ دقيقٌ لما يسمى «الإرهاب». أي تدميرٌ انتقاميٌّ بلا هدف، حين يكون النصر مستحيلاً، في ظل موازين القوى القائمة، على العدو.

ما نراه اليوم من همجية الطيران الروسيّ الذي يدمر الحجر والشجر، ويستهدف المستشفيات والمدارس وقوافل الإغاثة في سوريا، يمكن تفسيره بالعدمية الإرهابية نفسها. فهو حين يضرب بتلك الطريقة، إنما يتوجه إلى واشنطن أساساً ليطلب منها أن تعامل روسيا بنديةٍ واحترام. كان بودّه لو يضرب واشنطن أو باريس أو برلين، بدلاً من حلب وإدلب والغوطة. لكنه لا يستطيع ضرب الحمار فيفشّ قهره بالبردعة، على قول المثل. والبردعة، لسوء حظنا، هي بلدنا المنكوب.

لقد بلغت الوقاحة والاستهتار، من وجهة نظر روسيا، بحلف شمال الأطلسيّ أن يعقد مؤتمره الأخير في وارسو. وارسو نفسها التي حمل الحلف السوفييتيّ المضاد اسمها طوال فترة الحرب الباردة. إضافةً إلى هذه الخطوة الرمزية المهمة، عزّز الحلف الأطلسي، في الأشهر الأخيرة، تطويق روسيا عسكرياً، بنشر منظوماتٍ دفاعيةٍ متطورةٍ في الدول المحاذية لروسيا. من اللافت، في هذا الإطار، أن روسيا زودت قاعدتها العسكرية في حميميم بمنظومة صواريخ S400 المتطورة، بعدما وافقت تركيا على فتح قاعدة إنجرليك، في شهر تموز 2015، لاستخدام طيران التحالف الذي تقوده واشنطن ضد داعش. أي واحدة بواحدة.

تريد موسكو بوتين من واشنطن معاملتها بندية، كما كانت الحال أيام الحرب الباردة والثنائية القطبية.

وأحيت داعش دولة الخلافة، في خطوةٍ رمزيةٍ شفافة، لتقول لأقوياء عالم اليوم: الإسلام موجودٌ وقويّ، وعليكم احترامه وحمله على محمل الجد.

كلا الداعشين، البغداديّ والروسيّ، يفرم في لحمنا للفت أنظار الخصم المشتهى.

نجحت داعش في استعداء كل العالم، وقد تتقوض دولتها بعد وقت. لكن داعش الروسيّ يملك حقّ النقض في مجلس الأمن، إضافةً إلى قوته العسكرية وتفلته من أيّ روادع سياسيةٍ أو أخلاقيةٍ أو قانونية.