- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
المرجة.. من تجارة الأجساد إلى تجارة الأوهام والوعود الكاذبة
خلال السنوات الماضية وبعد اندلاع الحرب تحولت ساحة المرجة المشهورة في قلب العاصمة دمشق من مكان التقاء للعاملين في الدعارة، إلى سوق سمسرة تقدم فيها الخدمات الوهمية في أكثر الأحيان إلى من يبحثون عن قريب لهم في المعتقلات أو عن تسريح من الجيش أو نقل مجند من مكان ساخن إلى مكان أهدأ. من دون أن ننسى خدمات تسهيل الحصول على جوازات سفر وشهادات جامعية مزورة، ليصل الأمر إلى حد الحصول على وثيقة مزورة تؤكد التحدر من سلالة الرسول.
صباحاً وفي كل يوم تقريباً، يصل عدي الشاب الثلاثيني المتحدر من ريف الرقة إلى مقهى الوردة الشامية في المرجة، ليدير أعماله اليومية: مجالسة الزبائن القادمين بمعظمهم من محافظة دير الزور، والإصغاء بلطف واهتمام وتدوين ملاحظاته، قبل أن يجري بعض اتصالاته مع الأشخاص المهمين، ب"الشعبة" والمحاكم و"القابون" حيث قيادة الشرطة العسكرية التي تمر فيها قوائم المعتقلين بعد تحويلهم من الأفرع الأمنية إلى سجن صيدنايا الشهير.
قبل الثورة كانت المرجة تستقطب القوادين الذين يتخفى الكثير منهم بمهنة سائق سيارة الأجرة، على أنه يتم التعرف إليهم من خلال جمل متعارف عليها بين الزبائن. لكن نشاط المرجة تحول اليوم من الترويج للعاملين في الإتجار بالجسد إلى العاملين بالإتجار بالوعود الكاذبة، خاصة لإخراج فلذة كبد من أحد أقبية النظام.
وعند التنقل بين مقاهي ومطاعم المرجة من السهل التعرف على السماسرة الجدد الباحثين عن المال السريع على ظهر معاناة الكثيرين من الشعب السوري: خواتم الفضة في الأصابع، القمصان ملونة والرؤوس حليقة واللحي مشابهة للحية "جبل" بطل المسلسل التلفزيوني "الهيبة". وفي الغالب يحمل السمسار جهازي موبايل من الطراز الحديث، ويرافقه مساعد أصغر سناً يتولى تنفيذ المهمات العاجلة والتافهة، مثل جلب علب السجائر، تعبئة رصيد هاتف، تصوير الوثائق والأوراق المتعلقة بالعمل، وأحياناً لدى السماسرة الأشد حباً بالاستعراض، يحمل المساعد حقيبة معلمه ويقوم بركن السيارة في مكان مناسب بعد أن ينزل منها السمسار حديث النعمة.
ولإضفاء طابع أكثر جدية على عمله المرتجل، يستعين السمسار أحياناً بمحامين، فيصل "الأستاذ" مع حقيبته ليجالس الزبون بحضور السمسار، كما يمكن أن ينضم إليهما أحد الأشخاص الفاعلين، مثل "ابن عمه للواء كفاح" الذي يتحدث بلهجة أهل الساحل، ليخرج عندها الزبون التعيس فلوسه ظاناً أن طلبه بات قريب المنال.
يقول عدي لشيخ سبعيني يحاول الحصول على موافقة لزيارة ابنه في سجن صيدنايا، أن الزيارة تكلف ثلاثة ملايين ليرة سورية، وأن كل شيء بين القابون و"الشعبة" يسير على ما يرام، "ولازم تكون أموركم جاهزة حجي لأنه بأي لحظة الجماعة يخبرونا"، في إشارة إلى ضرورة توفير المال سريعاً.
وعلى غرار كل ذوي المعتقلين يتخلى هذا الشيخ عن حذره، فيحضر المال لينضم إلى لائحة ضحايا عمليات الاحتيال هذه. إذ من السهل جداً على سمسار يمتهن النصب أن يوقع بذوي المعتقلين أو المفقودين المستعدين للتعلق بأي أمل ولو كان وهمياً. والسيناريو المعتمد معروف وسهل ويتكرر بوتيرة شبه يومية. فبعد أن يتلقى السمسار المال المطلوب أو جزءاً منه، يتراجع اهتمامه بالزبون وتبدأ مرحلة التهرب والتملص منه، قبل أن يواجهه بالحقيقة المرة "براس ولادي العقيد سمير من الشعبة بطل يرد علي.. المصاري عنده وأنا ما أقدر أسوي شي".. وهكذا تتبخر الآمال والأحلام، ويقال له أن الملف بات بأيدي الضابط الفلاني الذائع الصيت الذي لا يتجرأ الزبون حتى على السؤال عنه، لأنه يعرف أن هذا الأمر لن يجلب له سوى المزيد من المتاعب.
يتجنب كمال، وهو سمسار آخر من ريف دير الزور يقيم منذ وقت طويل في دمشق، التعاطي في قضايا المعتقلين وخاصة من أبناء بلده. يقول في هذا الصدد "إنهم غالباً ينكرون الجميل بعد أن يحصلوا على ما يريدونه، وإذا أخذت منهم ألفاً يقولون أنها مليون". ويوضح كمال أنه يفضّل تجنب "وجعة الراس" المصاحبة لقضايا السجن والاحتجاز، ويعمل على قضايا تسريح الجنود، حيث العمل في هذا المجال حسب قوله "يتم مع جهة واحدة صاحبة قرار مباشر مثل اللجنة الطبية العسكرية في مشفى (601)، وهذا أسهل وأجدى من شربكة العمل مع مئة طرف وطرف".
وتتجاوز علاقات كمال الحقل الطبي العسكري، إلى التعليم العالي والإعلام ونقابات الأشراف التي تصادق على شجرات النسب الحسيني. وزبائنه هنا وجهاء وشيوخ عشائر مزعومون يحاولون استكمال العدة اللازمة، مثل الحصول على بطاقة من "الأمن الوطني" ب400 ألف ليرة، وشهادة جامعية أو شهادة دكتوراه فخرية من أي مكان بمليون إلى ثلاثة ملايين ليرة سورية، ليصل الأمر مقابل المال إلى الحصول على شجرة نسب مصدقة من نقيب أشراف ما، تثبت تحدره من نسل الحسين بن علي بن أبي طالب، والثمن ما بين 200 و300 ألف ليرة.
أما الزبائن في هذه الحالة فهم عادة من الكهول المتصابين الحريصين على أناقة معينة غالباً، فالمحرمة البيضاء مثلاً غالباً ما تكون موجودة، وصبغة الشعر غالبة لإخفاء شيبة كهولة، والشاربان مشذبان بدقة. يضاف إلى كل ذلك هذا الشغف المبتذل بأي أنثى، أكانت صبية صغيرة من العاملات في المقاهي أو موظفة في مكاتب السفر والفنادق، أو سيدات أكبر سناً وأكثر خبرة في منطقة جرمانا، حيث ينتهي اليوم هناك عادة.