مكتب في سجن تدمر

إلى كمال أحمد، على أمل عودته إلينا حراً

أشعر بشيء من الحرج كلما أردتُ الكتابة عن سجون «الزمن الجميل». فالوحشية البهيمية السائدة اليوم في سجون ومعتقلات نظام بشار الكيماوي، وقد وثقتها تقارير كثيرة لمنظمات حقوقية دولية، تكاد تجعل من السجن، في تلك الأيام، نزهة بريئة، بالقياس إلى «المسلخ البشري» على ما وصفت منظمة العفو الدولية سجن صيدنايا. لا يمكن معرفة العدد الحقيقي لمعتقلي النظام اليوم، ولكن يمكن الحديث، بلا مجازفة كبيرة، عن عشرات الآلاف، بينهم الكثير من الأطفال.

طوال نحو ثماني سنوات، هي الفترة التي أمضيتها، من زمن اعتقالي، في سجن حلب المركزي في المسلمية، كانت مفرزة الأمن السياسي المشرفة على الجناح تتألف من رئيس المفرزة المساعد أول أبو أمجد، وثلاثة شرطيين هم أبو جمعة وأبو أحمد وأبو عادل. كان لهم نظام دوام روتيني لا يتغير إلا في حالات طارئة. فرئيس المفرزة يداوم يومياً، باستثناء يوم الجمعة، في الفترة الصباحية الممتدة من الثامنة إلى الثالثة بعد الظهر، ويكون معه اثنان من الشرطة، يبقى أحدهما مناوباً بقية اليوم، إلى صباح اليوم التالي. أما يوم الخميس، يوم الزيارات -إذا كانت مسموحة- فيكون الأربعة موجودين معاً إلى ما بعد الظهر.

أصبح السجانون ورئيسهم، بمرور السنوات، جزءاً من حياتنا اليومية، نعرف شخصية كل منهم وتقلبات مزاجه، ومشكلاته المهنية أو الشخصية، ونقاط قوته وضعفه. ما سوغ لي اقتباس عنوان هذا النص من فيلم الوسترن الشهير «الطيب والشرير والقبيح» للمخرج الإيطالي سيرجيو ليوني، هو ذلك التباين بين مسالك السجانين الثلاثة في تعاملهم مع المعتقلين.

الطيب

كان أبو عادل هو الوحيد، بين الثلاثة، الذي يمكن وصفه بالطيب، نظراً لأنه لم يؤذِ أحداً من المعتقلين طوال تلك السنوات، مع العلم أن «طيبته» كانت نتيجة فساده: كان يتلقى الرشوة من المعتقلين مقابل خدمات معينة، منها إدخال الكتب والمجلات. بل وصل به الأمر إلى حد إدخال المخدرات إلى مجموعة اعتقلها الأمن السياسي، كانت تتاجر بالمخدرات في حلب، في الثمانينات، وتصدرها إلى أوروبا.

كانت أبواب المهاجع تبقى مفتوحة، أثناء مناوبات أبي عادل، من الثالثة ظهراً إلى الحادية عشرة ليلاً، وقد تمتد إلى ما بعد ذلك، إذا كان أبو عادل يلعب الورق مع المعتقلين في أحد المهاجع. من أبرز الذكريات عن هذا السجان، تلك الليلة الرهيبة التي تحولنا فيها إلى رهائن يساوم عليهم إرهابيون. كان أبو عادل يلعب الورق في المهجع العاشر، حين سمعنا صوت طلقة مسدس دوَّت في صمت الجناح. ركض أبو عادل إلى المفرزة، وصرخ يطلب ممن في داخلها فتح الباب. ثم عاد راكضاً، بعد دقائق، ممتقع الوجه، وأقفل أبواب جميع المهاجع، ثم دخل المهجع العاشر وأقفل بابه أيضاً حيث احتمى بالمعتقلين حتى الصباح. «قتلوا سجان الأمن العسكري» هذا ما أخبرنا به وهو يقفل الأبواب. (كتبتُ تفاصيل هذه الحادثة في مقالتي: «حلب: عودة الرعب» – القدس العربي، 15 كانون الأول 2016).

الشرير

أبو جمعة (جاسم) من ريف السفيرة. أسمر الوجه موشومه، مؤذٍ بإخلاص كلبي. كان يستدرج المعتقلين السياسيين في النقاش السياسي لكي يفرغ فيهم أحقاده وينتقم منهم لاحقاً، مع العلم أنه غير معني أبداً بأي سياسة. الشيء الوحيد الذي يعنيه هو أننا معارضون للنظام، ينبغي تأديبنا، وإن اقتضى الأمر: سحقنا بلا رحمة. يمكن تلخيص «فلسفته» في الحياة بقصة حكاها لنا بوصفها عبرة نعتبر بها:

قال إن ابنه بلغ عمر الشباب في مطلع الثمانينات، وكانت «أحداث» الصراع بين النظام والإخوان المسلمين على أشدها في حلب ومدن أخرى. خاف أبو جمعة على ابنه أن تجرفه الأحداث فيقع ضحية لها. فحذره طالباً منه العودة إلى البيت، كل يوم، قبل مغيب الشمس. لكن الفتى لم يلتزم، وكرر التأخر أكثر من مرة على رغم توبيخ أبيه المتكرر وتهديداته. فما كان من أبي جمعة إلا أن سلمه لصديق له يعمل في فرع الأمن العسكري، طالباً منه تأديب الولد حتى يرتدع. كان يخشى أن يرق قلب زملائه في فرع الأمن السياسي فلا يؤدبونه كما يجب، باعتباره ابن زميلهم. لذلك اختار فرعاً آخر تلقى فيه الولد نصيبه من التعذيب في الدولاب، كما يعذب أي معتقل بين أيديهم. ومن يومها التزم الولد بأوامر أبيه. «أنا نبي!» قال أبو جمعة في ختام حكايته «عرفت أنه بحاجة إلى تخويف حقيقي حتى لا يقع له مكروه».

القبيح

أبو أحمد، من ريف محافظة إدلب، كزميله أبو عادل. أصغر السجانين عمراً وأقلهم عقلاً. كان أبو جمعة غالباً ما يدفعه خفيةً، إذا أراد أن يؤذي أحد المعتقلين السياسيين، فيكون «وجه المقابحة» الذي يختفي خلفه. كان أبو أحمد أحمق أرعن ينال عداء المعتقلين مجاناً، في حين يظهر أبو جمعة وكأنه لا علاقة له بالأمر، بل يعبّر عن «أسفه»، في بعض الأحيان، مما اقترفت يدا زميله، إذا اشتكى له أحد المعتقلين عن أذية المذكور. اشتهر أبو أحمد بسرقة الملابس الداخلية للمعتقلين ممن تأتيهم زيارات. وفي فترة من الفترات، امتدت لأكثر من سنة، كان يجبرنا على النوم في الحادية عشرة ليلاً، ويتسلل في الليل مثل اللصوص لضبط غير النائمين لكي يتلذذ بجلده.

........

الخلاصة أن سنوات مضت، يتناوب على أيامنا فيها ثلاثة سجانين، هم الطيب والشرير والقبيح، بانتظام لا يختلف عن انتظام تعاقب الليل والنهار على كوكب الأرض. سوف يختل هذا الانتظام قليلاً، في السنة الأخيرة من أيام سجن المسلمية، حين تم استبدال بعض السجانين بآخرين جدد لم يكفِ الزمن ليتركوا الكثير من الذكريات. وسيعود أبو أيمن الذي سبق وكان سجاناً في الجناح في السنة الأولى لتأسيسه. وهو يستحق صفة الطيب استحقاقاً تاماً، بأكثر من أبي عادل الذي كان يبيع «طيبته» المصطنعة مقابل الرشوة.

غالباً ما كانت مناوبات أبي أحمد (القبيح) كابوساً على الجناح، يعدّ فيها المعتقلون الدقائق والساعات بانتظار انتهائها. ففيها تبقى أبواب المهاجع مقفلة طوال الوقت، مع استثناءات قليلة يفتحها فيها. كان لفتح الأبواب أهمية كبيرة في التخفيف من وطأة السجن، فيتمشى السجناء في كوريدور الجناح الطويل، ويلتقون بزملائهم في المهاجع الأخرى، وتخف بذلك وطأة الزمن القاتل.

لكن مناوبات أبي جمعة كانت أكثر خطراً، لأنه يمكن أن يؤذي أكثر من أبي أحمد، أو يبيّت أحقاده ثم يحرض وجه المقابحة على إيقاع الأذى بالمعتقلين.

لماذا تذكرت هذا الآن؟

منذ اليوم الأول لدخول دونالد ترامب البيت الأبيض وهو يتخذ قرارات مؤذية، لا يقتصر أثرها على الأميركيين وحدهم، بل تتعداهم إلى العالم بأسره. يبدو من موجات الاستياء من قراراته وكأن العالم قد ابتلي بـ«مناوبة» السجان القبيح (ترامب) يعد الأيام بانتظار الفرج في نهاية ولايته.

غير أن العالم لا يعرف من الذي سيكون في «المناوبة» التالية: الشرير أم «الطيب» الفاسد؟