أنا السوري

أنا السوري الذي يقبع الآن في زنزانة منفردة منذ أكثر من سنة. أغلب الظن أنها سنة، قضيتها هنا دون تمييز الأيام أو الأشهر والفصول. لا أخرج إلا إلى حفلة التعذيب اليومية، لم أرَ فيها أي إنسان سوى الشخص الذي يضع العصابة على عيني. ليتهم ينقلوني إلى الزنزانة الجماعية التي وُضعتُ فيها بداية هذا الحبس، هناك سأجد بشراً أتكلم معهم بدلاً من الحديث المكتوم مع نفسي. سوف أستطيع التمدد على الأرض بكامل جسمي، فهنا عليّ أن أطوي ساقيّ لأستطيع النوم. في الزنزانة الجماعية سيدخل ويخرج أناس جدد بشكل مستمر، ويمكنني معرفة بعض الأخبار من الخارج، وقد تتسرب بعض الأنوار.

أنا السوري الذي تم نقله منذ أشهر إلى الزنزانة الجماعية: بالكاد يتّسع المكان للجلوس، والنوم بحاجة إلى "المسايفة" التي نبدو فيها كسمكٍ في علبة سردين. هل سيتركونني هنا إلى الأبد، أم سأحوَل إلى سجن عدرا المركزي؟ الجميع هنا يعرف عدد الميزات التي من الممكن الحصول عليها هناك. سوف أنام على فراش من الإسفنج على الأقل، فقد أكلتْ أرض هذه الزنزانة من أكتافي وظهري. كذلك سوف أتناول لأول مرة طعاماً يصلح للأكل البشري، فالطعام هنا بقايا لا يدفعك لأكلها إلا خطر الموت. سوف أتمكن من التحدث بالهاتف مع زوجتي وأطفالي، وربما يأتون لزيارتي فأراهم لأول مرة منذ سنوات. أرسلت لهم أكثر من مرة مع الخارجين من هذه الزنزانة بأني حيّ، ولا أدري فيما إذا وصلتهم إحدى تلك الرسائل. بالتأكيد سوف يكون بإمكاني الاستحمام في السجن، والتخلّص من أوساخ هذه السنين.

أنا السوري الذي أمضى وقتاً ليس بالقليل في سجن عدرا المركزي: أنتظر بفارغ الصبر اللحظة التي سأتخلص فيها من هذا المكان. أريد رؤية عائلتي التي عرفت أنها محاصرة في حمص مع آلاف الناس هناك. كيف يتدبرون أمورهم يا ترى؟ سوف يكون أجمل أيام حياتي عندما أعود إلى حارتي، وأبحث عن عمل ما، بعد أن تركت وظيفتي، التي اعتُقلت وأنا أقبض راتبها الشهري. أريد أن أتخلص من هذه الجدران التي تحيط بي من كل الجهات، وهؤلاء العناصر، وذلك الوجه البائس المُعلّق على كل جدران السجن، ليُذكّرنا بمأساتنا في حال صدف أننا نسينا.

أنا السوري المُحاصر في مدينة حمص: تم الإفراج عنه مقابل إطلاق سراح شبيح أسره الثوار. لم أتخيل أن أخي الصغير الذي تركتُه أقرب للأطفال منه للرجال، يقود الآن لواءً من عشرات المقاتلين، ويتصرف كأنه رئيس دولة. أرغب في أن أنجو بعائلتي من هذه المعيشة البائسة التي لا يتوفر فيها إلا القصف المدفعي والجوي اليومي، والهروب الذي لا ينتهي إلى الملاجئ، و(الثوار) الذين تركتهم قبل السجن ملائكة، وخرجت لأجدهم شياطين.

ليتنا نستطيع الوصول للشمال، حلب أو إدلب لا فرق. هناك المساحات واسعة والمدن والقرى تنتشر في كل مكان، والحدود مفتوحة، ونستطيع الحصول على كل ما نرغب. على الأقل يمكن لأطفالي أن يعرفوا ما هو الموز الذي يسمعون عنه باستمرار من الكبار.

أنا السوري الذي تم تهجيره إلى إدلب، بعد أن فشل الجميع بفكّ الحصار عنه، أو إيقاف القصف عليه: هنا قصف كذلك، والمجازر تنتقل يومياً من قرية إلى أخرى. ليس وحده القصف من يُعكّر عليّ العيش. الفصائل تتقاتل بشكل يومي ويسقط بينهم العديد من القتلى. فوضى عارمة تُهدّد مستقبل هذه المنطقة برمتها. العديد من الأفكار والمذاهب تُلقي بظلها الثقيل، ولا أعرف هل أنا كافر أم مرتدّ أم ملحد أم خارجيّ.

 أفكر الآن في السفر إلى تركيا. على الأقل سوف أعيش هناك بأمان من القصف والخطف، في دولة من أكثر دول العالم تطوراً. سوف أبحث لأطفالي عن طريقة ليكملوا دراستهم بعد أن انقطعوا عنها سنوات. على الأقل سوف أعامل هناك على أني إنسان.

أنا السوري الذي أعيش في تركيا، كما يفعل مثلي حوالي ثلاثة ملايين لاجئ: دفعت ألف وخمسمئة دولار أمريكي لعبور الحدود، ودفعت ما تبقى لدي لاستئجار منزل متواضع. العمل متوفر هنا بكثرة، إلا أن شخصاً مثلي لا يتقن أي حرفة، ولا يعرف أي شيء عن اللغة التركية، لم يتبق لديه إلا قوته العضلية، التي لم يختبرها في حياته.

 لا أدري إلى متى سوف أستمر في العمل كعتّال لحوالي اثنتي عشرة ساعة في اليوم، ولا أعرف إلى متى سوف يصمد عمودي الفقري قبل أن ينهار بشكل كامل. قررت أن أتحمل هذا الحال حتى أستطيع تأمين مبلغ يكفيني للهجرة إلى ألمانيا. الجميع يقول إن الطريق مفتوح.

بعد تفكير طويل قررت أن تخوض معي عائلتي هذه الرحلة، فلن أستطيع تركهم وحدهم لفترة طويلة. هناك لن أحتاج للعمل بهذه الطريقة، وستتكفل الدولة بتأمين المعيشة والسكن بالحد الأدنى. سوف نستقر في تلك البلاد، التي لم نكن نحلم بزيارتها.

أنا السوري الذي استقرّ في ألمانيا، ويحاول جاهداً الاندماج في هذا المجتمع الغريب: أشعر أني بدأت أخسر أبنائي، الذين انخرطوا في الحياة الجديدة بشكل سريع، قبل حتى أن أفكر ما هو الصواب وما هو الخطأ هنا. أمضي الكثير من الوقت مستعرضاً شريط ذكرياتي والأيام التي مررت بها، أُحصي من مات ومن لازال حيّاً من الأحباب، والأماكن التي استقروا فيها.

لا يوجد أي خيار يُمكن أن أهرب إليه هذه المرة، وبكل تأكيد العودة إلى سوريا غير مطروحة. لكن أكثر ما يثير الرعب في قلبي أني إذا متّ الآن لن أدفن فيها.