«أيام الرخاء» صارت ذكرى على الجدران في الساحل ..والمقابر تتسع

وَرَد في جريدة التلغراف قبل مدة وجيزة أن «ثلث العلويين القادرين على حمل السلاح قد قتلوا»، وهي معلومة قد لا تبدو صادمةً ولا مبالغاً بها أمام أعين من يشهد التغيّرات في شكل وطبيعة الحياة في قرى الساحل السوري، الخزان البشري الأول لجيش النظام وقواته الأخرى.

يجعل الاتساع الذي تشهده مساحات المقابر، ونسبة الشبان القتلى المتزايدة باستمرار، ما ذكرته التلغراف غير دقيق، فليس من المنطقي القول إن «ثلثي القادرين على حمل السلاح من العلويين ما زالوا على قيد الحياة اليوم»، لأن النسبة أقل بكثير، لكن تأكيد ذلك يعوزه الأرقام والبيانات الدقيقة التي يصعب الوصول إليها. هذا التناقص العددي لفئة الشباب على وجه الخصوص في مجتمعات الطائفة العلوية، تبعته تغيرات بكل مظاهر الحياة هناك، ويبدو لمن يعرف مظاهر الحياة السابقة في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في قرى الساحل والغاب، أن بعضها آخذ بالعودة اليوم، مقابل تآكل في المظاهر الدالة على التحسن النسبي في معيشة الناس بهذه المناطق، التي جاءت على مرحلتين، الأولى مع ارتفاع نسبة الموظفين بالقطاع العام خلال العقدين الأخيرين من عهد حافظ الأسد، والثانية مع اتساع تلك النسبة وتعدد فرص العمل الخاصة التي جلبها اقتصاد السوق خلال العقد الأول من عهد بشار. 

تقسم غالبية الأسر في الساحل والغاب اليوم إلى أقسام تبعاً لحجم المصيبة التي منيت بها، فمن بيت خلا من الرجال تماماً، إلى بيت مازال فيه البعض، إلى بيت سلم حتى الآن لكنه ينتظر بقلق؛ ففي قرى جرود بانياس والقدموس مثلاً (بدوقة – الطواحين – حاطرية – التون الجرد – عنازة.. وغيرها) لا تخلو غالبية البيوت من صورتين على الجدار تحملان شريط (القتلى/الشهداء) الأسود. وتتسع المأساة هنا في هذه المنطقة التي يقل فيها عدد الضباط والمسؤولين المهمين الكبار مقارنة بغيرها في محافظتي طرطوس واللاذقية، نتيجة غياب الواسطة الأهلية التي يمكن أن يمثلها هؤلاء بتحريك الأوراق العالقة بروتين أجهزة النظام، لجلب اعتراف رسمي بشهادة (مجهول مصير)، أو تسريح شقيق وحيد ل(شهيد)، أو توظيف أخته ولو بعقد مؤقت لثلاثة أشهر، فضلاً عن المعاملة الأهم التي يمثلها التعويض، وغير ذلك من العناية التي تخفف من آثار المصائب. يتراوح المبلغ المالي الذي يأخذه ذوو القتلى المعترف بهم ك(شهداء) بين (300) ألف إلى مليون ليرة، بحسب الرتبة وسنوات الخدمة. تقول سمية (اسم وهمي) من ريف بانياس، وهي شقيقة لصف ضابط مجند في جيش النظام لقي مصرعه، أنها دفعت (130) ألف ليرة بين رشاوى ونفقات تنقل قبل أن تحصل على مبلغ (400) ألف كتعويض عن (تضحية أخيها)، وبعد أشهر من السعي والإرهاق والمعاناة بين اللجان والمكاتب.

مرت قرى الساحل والغاب بفترة كادت تخرج فيها من مظاهر الفقر، قبل أن تتجدد بالغلاء، وتآكل قيمة الليرة إلى أقل من عشر قيمتها قبل الثورة، ونفاد الموارد الثانوية. ثم تراجع اقتصاد (التعفيش) وغنائم الحرب من المناطق الثائرة نتيجة نفاد معظم الموجودات التي يمكن الاستفادة منها في تلك المناطق، التي شكلت دخلاً بديلاً ورئيسياً لدى بعض جنود قوات النظام وعائلاتهم في الساحل خلال السنوات الأولى من الثورة.

يقول سعد، وهو محامٍ مقيم في مدينة طرطوس، يعمل في (قضايا أسر الشهداء)، ويقوم بزيارات دورية لقرى بانياس التي ينتمي إليها، «يمكنك أن ترصد الفقر اليوم داخل المنازل، وفي نوع وشكل البضائع المعروضة في المحلات والدكاكين في الضيع الفقيرة، إلى جانب مدافئ الحطب بديلاً عن المازوت، والعودة إلى زراعة الأرض وتربية الحيوانات». ويتابع «معظم البيوت التي تركت تربية الدجاج عادت إليها، وكثير من الموظفين الحكوميين والمتقاعدين عادوا لزراعة ملكيات الأرض الصغيرة الموروثة بنصف الدونم والدونم والدونمين، بل واستصلح بعض من أبناء الضيع الساكنين في المدن بقايا بيوت خربة في ضيعهم، وأقاموا فيها، جزئياً أو كلياً، لزراعة الأرض وإخلاء المنزل في المدينة، وتأجيره لنازحين جاؤوا من المناطق الساخنة»، حسب المحامي، الذي شكلت قضايا (تعويضات الشهداء) محوراً رئيسياً لعمله. ويلاحظ أنه «صار مألوفاً اليوم رؤية مسنين يقطعون أشجار الحراج، ويحملون ما يستطيعون حمله على ظهورهم والطواف لبيعها في شوارع القرى والبلدات الريفية، وصار مألوفاً أيضاََ في هذه البلدات مشهد تفاوض بائع في دكان مع الزبون على ثمن بيضة واحدة».

قطع الأثاث المنزلي وأدوات المطبخ الكهربائية وحتى طلاء الجدران  صارت ذكرى، ودليل على «سنوات رخاء عاشها الناس قبل الأزمة» حسب تعبير المحامي الذي يأمل أن «تتوقف الحرب» فحسب.