جاري أبو علاء وعائلته:
ظلت سيارتهم على الماء شاهدة على موتهم. لم يبتلعها النهر

«كنا ننتظر دورنا بالصعود إلى العبارة، بينما أنظر إلى سيارة جارنا أبو علاء، الذي استشهد مع عائلته منذ يومين في نفس هذا المكان، عندما حاول عبور النهر إلى الضفة الثانية. قتلوا ومعهم العشرات بالغارة التي ضربت المعبر».

هكذا يتذكر أبو حسين، الذي ترك العشارة مؤخراً، لحظات عبوره نهر الفرات، بعد القصف الهستيري الأخير على ريف دير الزور الشرقي، من قبل الطيران الروسي تمهيداً لتقدم قوات النظام وميليشياته، بتركيز واضح على المنافذ المتاحة لعبور الأهالي في أماكن وقوف السفن النهرية على الضفتين (المعابر) لنقل الركاب والسيارات من الشامية، وهي الجهة التي يتقدم فيها النظام، وتنال القسم الأكبر من القصف، إلى الجزيرة حيث الأمان النسبي، وبداية الطريق إلى مخيمات الحسكة والرقة.

اتخذت عائلة أبو حسين قرارها بالهروب من مدينتهم العشارة التي (صار ليلها يشابه نهارها) من وهج القذائف الصادرة عن الطائرات، بعد أن شهد رب الأسرة موت جيرانه المدفونين تحت أنقاض منزلهم جراء غارة جوية على الحارة، رتب أموره على عجل، وترك منزله كما هو، واتجه إلى نهر الفرات حيث بقايا سيارة جاره الآخر إلى جانب العبارات، التي ستنقله إلى الضفة الثانية، والتي أصبحت الخيار الوحيد للتنقل بين الضفتين بعد أن قام التحالف الدولي بتدمير جميع جسور محافظة دير الزور نهاية العام ٢٠١٦. 

«ذاك المنظر المقرون بذكرى مؤلمة عمرها يومان فقط، أدخلت الخوف إلى داخلي، رغم كل محاولاتي لإبداء الجلد أمام زوجتي وأطفالي» يكمل أبو حسين حديثه «كان الوقت ظهراً، وهو أكثر أمنا من غيره، كما أخبرنا جارنا الذي يملك ابن عمه سفينة صغيرة. ازدحام شديد على الضفة، وتجمهر يوحي بيوم الحشر . جاء دورنا بعد حوالي 40 دقيقة من الانتظار والترقب، والاستماع لبعض القصص والتحليلات ممن ينتظرون دورهم»، ولأن الأهالي لا يعرفون أية أخبار عن العالم، بعد أن حرمهم تنظيم الدولة من التلفاز، فإن أبو حسين لم يعرف، سوى من أحد المنتظرين، أن معابر أخرى بعيدة تستهدف على طول النهر كالشميطية والبوليل.

مجازر متكررة وقعت في دير الزور خلال الشهرين الأخيرين، تناوب على القصف فيها طيران التحالف والطيران الروسي والأسدي، أودت بحياة ما يقارب 859 مدني من الأهالي، حتى كتابة هذي السطور، بحسب ناشطين من أبناء المحافظة قاموا بتوثيق الشهداء، على أن غالبيتهم قضوا في قصف المعابر، وهجر ما يقارب الـ 250 ألف مدني منازلهم، وهاموا على وجوههم يبحثون عن ملاذ آمن. كما فرض القصف أوضاعاً إنسانية مأساوية على من لم يزل هناك، في ظل نقص حاد بالمواد الغذائية من جهة، وخروج معظم المراكز الصحية والمستشفيات عن الخدمة، الأمر الذي ينذر بكارثة بشرية إن استمرت الأمور على حالها.

يقول أبو حسين: صعدت أنا وأطفالي الثلاثة وزوجتي الحامل في شهرها الثامن إلى العبّارة، ودقات قلبي تزداد سرعتها. ما أتذكره أني لم ألاحظ مياه النهر، فقد كانت عيوننا مسمّرة نحو السماء خوفاً من قدوم طائرة، كتلك التي أتت منذ يومين، وقتلت الناس الذين كانوا يحاولون الهروب مثلنا؛ ولكن إن أنجانا الله واستطعنا العبور فتلك هي البداية، فماذا سوف أقول لعناصر التنظيم الموجدين على الضفة الثانية عندما يسألونني إلى أين أنتم ذاهبون؟ وماذا بعد أن أتجاوزهم؟ إلى أين سأتجه بأطفالي وزوجتي، كل تلك الأسئلة رافقتني وأنا أنظر إلى السماء، حتى وصلنا بر الأمان.

 استطاع أبو حسين تجاوز دورية التنظيم، وقد أخبرهم أنهم ذاهبون إلى إحدى قرى الريف في  شمالي دير الزور، ثم تابع مع مجموعة من الركاب بسيارة (فان) قاصدين محافظة الحسكة، و بعد ساعات من المسير، وما تخلله من قلق وتوتر ووقوف عند حواجز التنظيم والأسئلة والأجوبة المتكررة، «وصلنا طريقاً صحراوية سرنا خلالها ما يقارب الساعة، ليخبرنا السائق أنه يتوجب علينا المبيت هنا» وكان الوقت قد شارف على المغيب. «بتنا ليلتنا في البرية محتملين البرد والخوف حتى شروق الشمس».

بعد ساعات من المسير وصلوا الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية، لتبدأ سلسلة الأسئلة الأخرى والرشاوى على الحواجز، حتى مخيم السد، الذي تخلص أبو حسين من الاحتجاز فيه عبر مهرب تقاضى ١٥٠٠ دولار لإيصالهم إلى مدينة الحسكة.