- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
المجزرة التي تستَّر عليها تنظيم الدولة
تبدو كمحاولة للتملص من المسؤولية، الحكاية التي أفشاها قادة أمنيون محليون في تنظيم الدولة الإسلامية من دير الزور حول إصدار أبو عبد الله الكويتي أحكام الإعدام بحق 400 طالب جامعي بالخطأ؛ منذ أكثر من سنة، بسبب «التدريب الجامعي» الذي لم يكن يعلم أنه مادة جامعية مقررة. وتكمل الحكاية أن أولئك الأمنيين دخلوا في نزاع مع الكويتي بسبب فعلته تلك، لكن شهادات ناجين تفيد بأكثر من ذلك.
رغم الحصار الذي فرضه تنظيم الدولة، مع بداية 2015، على الأحياء التي يسيطر عليها النظام من مدينة دير الزور، إلا أنه سمح بخروج المدنيين من هناك، كما ظل يسمح بدخولهم إليها لعدة أشهر من تلك السنة. ودفعت صعوبة التنقل، وقتها، أعداداً كبيرة من طلاب دير الزور الجامعيين إلى تأدية فحص الدورة الامتحانية الثانية في جامعة الفرات في المدينة، بعيداً عن جامعاتهم الأصلية في المحافظات الأخرى. ومنذ ما بعد منتصف سنة 2015 حتى نهايتها ظل الطلاب، وفئات متنوعة من الأهالي، يخرجون باتجاه الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، قبل أن يقل عددهم، ثم يفضلوا استعمال الطيران، بعد أن انتشر خبر اعتقال مدنيين كثر كانوا بينهم. ويفيد أحد الطلاب الناجين، وكان يدرس الأدب الفرنسي، أنه كان قد سمع قبل أن يخرج من المدينة أن التنظيم وعد بعدم المساس بالمدنيين، خاصة من يترك الأراضي التي يسيطر عليها النظام طوعاً.
لماذا بقيت المجزرة مجهولة؟!
يعلم من هم على علاقة بالقضية، كذوي الطلاب، بأمر المخطوفين وأعدادهم، ولكنهم فضلوا إخفاء ذلك عن الإعلام أملاً في خروج أبنائهم أحياء، رغم أن مكاتب العلاقات العامة في التنظيم أخبرت العديد ممن راجعوها أن الأبناء قتلوا بتهمة الردة، ولكن العوامل الاجتماعية تبقى حاضرة لتكريس الأمل، إذ يخبر أصدقاء بعض القتلى أهاليهم، خاصة الأمهات، أن أبناءهن بايعوا التنظيم وذهبوا معه إلى العراق. كما ساعد في إبقاء المجزرة طي الضمائر توقيت وقوعها في الأيام الأخيرة من سنة 2015، والتي أعقبها بقليل أو رافقها هجوم التنظيم على البغيلية، عندما تداولت صحف ووسائل إعلام -ربما اختلطت عليها الأمور- أن التنظيم خطف 400 شخص من هناك، قتل منهم ما يقارب 135 في أقل الروايات و300 في أكثرها، لكن الإعلاميين المحليين نفوا ذلك، إذ لم يكونوا على علم بقتل الطلاب حينها.
المسؤولون عن المجزرة
كما في مجزرة الشعيطات، يساق اسم أبو عبد الله الكويتي كمسؤول رئيسي عن أحكام الإعدام التي اعتمدت على فتوى صادرة منه. وتدعي وسائل إعلام عربية أن الكويتي قتل في ظروف غامضة في مدينة البوكمال، بينما نشرت أخرى خبر اعتقاله، لكن عناصر محليين يقولون إنهم شاهدوه في ولاية الشام بعد الحادثة بأشهر، وقد شاع وقتها تحرك التنظيم لمحاسبته.
ويشير طلاب ناجون ومطلعون على الحدث ومقربون من عناصر في التنظيم، بأصابع الاتهام إلى شخصيات محلية معروفة أسهمت بشكل مباشر في سوق الطلاب إلى حتفهم. إذ يفيد أكثر من شخص أن مسؤولين محليين في التنظيم من قرية محيميدة، وآخرين، كانوا وراء الأمر، حتى أن المحكمة التي أصدرت الأحكام كانت تعقد في أحد البيوت المصادرة في تلك القرية. لكن طالب الفرنسي يرجّح أن المحكمة كانت في قرية حطلة، إذ قضى قرابة الثلاث دقائق بسيارة نقلته من المحكمة معصوب العينين إلى دوار الحلبية مدخل مدينة دير الزور، حيث أطلق سراحه. لكن تحديد هويات القائمين على الاعتقال والتحقيق غير ممكن بسبب تغيير أولئك الأشخاص ألقابهم بشكل دوري.
الاعتقال والتحقيق
بتاريخ 23/10/2015 اعتقل حاجز البغيلية طالب الأدب الفرنسي حين خروجه مع أخيه من حيّ الجورة. ونقلهما عناصره، معصوبي الأعين، مع آخرين، بسيارة إلى مكان عرف في ما بعد أنه شركة الأصايل في التبني، وسيعرف لاحقاً أن ذلك اليوم سيغيّر حياته إلى الأبد. يتذكر الآن أنه كان يسمع، من أحاديث الناس في الجورة والقصور، أن التنظيم يعتقل الخارجين من الحيين لساعات في مدرسة في معدان (على الحدود الإدارية بين الدير والرقة) ثم يطلق سراحهم، لكن ذلك الأمر تغيّر مع اعتقاله، أو قبله بأيام قليلة.
فقد انتشرت معتقلات التنظيم الخاصة بالخارجين إلى أراضيه في قرى الريف الغربي، حيث حول غرف أبنية سيطر عليها إلى زنازين، بعضها خاص بالنساء. تتسع كل زنزانة لعدد يتراوح بين 40 و150 شخصاً، بحسب شهادات ناجين. يتولى السجانون تفتيشهم قبل إدخالهم إليها، ويعمدون أثناء ذلك إلى تمزيق دفاتر الخدمة الإلزامية التي يجدونها بحوزة المعتقلين، ثم يبدأون بأخذهم فرادى إلى غرفة التحقيق، حيث ضرب طالب الفرنسي لساعات بأنبوب المياه الأخضر، بغية دفعه إلى الاعتراف بإحدى التهم التالية (الخروج في مسيرة تأييد؛ انتخاب بشار الأسد؛ الانتماء أو الاختلاط بالجيش الوطني؛ حضور معسكر تدريب جامعي). يقول: قلت لهم «لو عليّ شي ما جيتكم». بالنسبة إلى غيره من المعتقلين لن يقتصر الأمر على الأنبوب الأخضر، بل ستستعمل عصا المجرفة (الكريك) وعصيّ قوات حفظ النظام.
طال التعذيب كباراً في السنّ كانوا موظفين في دوائر الدولة، قتل بعضهم بعدها مع أبنائهم. واستعمل التنظيم أشخاص خارجين للتو من الحيين ضد الآخرين، فجندهم للتجسس على المعتقلين والتحقيق معهم أيضاً، حتى أن البعض يتكلم عن طلاب جامعيين كانوا يعملون في التحقيق، في فترة ساد فيها قانون يجرّم الطلاب الجامعيين عمّ الريف الغربي لأشهر، حتى أن صيدلياً عمل هناك يتذكر أن أمنياً من التنظيم قال له «أنت طالب؟»، فرد بالنفي فزعاً، وأرى أميره بطاقته على الفور.
بيروقراطية القتل
ليس معروفاً على وجه الدقة كيف أُطلقت الأحكام النهائية على المعتقلين، والتي قرر بموجبها الكويتي أو غيره قتل من قُتل وترك من تُرك. لكن الأحاديث تقول إن المحققين كانوا يمنحون الشخص الأمان ويقنعونه بالاعتراف، فإذا ارتاح لهم واعترف قتلوه. في حين يقول مطلعون إنهم، على العكس من ذلك، يسألون الشخص عن التهم فإذا اعترف بها تركوه، أما إذا لم يعترف، وتبين بعدها أنه مدان بها، قتلوه. وتثبت الشهادات ذلك، وتضيف إليه أشياء في غاية الغرابة.
فيفيد طالب الفرنسي أنهم يضربون الجميع بغض النظر عن اعترافاتهم، ويخبرونهم أن أقصى عقوبة هي الاستتابة حتى «لو قتل منا مائة قتيل». ويضيف أنه اعترف بأنه خضع لمعسكر التدريب الجامعي ولكن من أجل التخرج، وأنهم أخذوا اسمه من الجامعة من أجل الانتخاب، وأنه -خوفاً من الوشاية- كان يسلم على عناصر الجيش الوطني ويجلس مع من يعرفه منهم أحياناً، لأنهم «ما يخافون الله». لكنه أكد للمحققين أنه يكره النظام، فأوصوه، قبل أن يدخلوه إلى قضاتهم، ألا يخبرهم أنه اعترف بسبب الضرب.
أعاد على مسامع القضاة، وصوت الضرب يصل إلى مسامعه، ما كان قاله للمحققين، فسمع «لا حول ولا قوة إلا بالله» من فم القاضي الذي كان يعيد الأسئلة عليه ثم قال له «گم» (قم)، الكلمة التي سيكررها القاضي على مسامع المفرج عنهم فيعرفون أنهم سيبقون على قيد الحياة، بينما لن تقال لمن رفضوا الاعتراف بالتهم في البداية، ثم أُجبروا على ذلك بالتعذيب المستمر والمضاعف، والذين ستكون عقوبتهم الإعدام.
خرج من الأحياء التي يسيطر عليها النظام عناصر في الجيش والدفاع الوطني والأفرع الأمنية باتجاه أراضي التنظيم، ثم إلى تركيا، في الوقت نفسه الذي اعتقل فيه الطلاب، دون أن يتعرض لهم التنظيم. حتى انتشرت حينها نادرة تقول إنه إذا اتهمك أحد عناصر داعش: «مبيّن من شكلك تشتغل مع الأمن!»، قل له: «أنت مبيّن من سؤالك أنك تشتغل مع الأمن!!»، وعندها فقط سيتركك وشأنك.
دورات الاستتابة - من إصدارات داعش
استتابة مرتد
قضى الطالب 12 يوماً في المعتقل مع أخيه، ثم أُرسل إلى دورة استتابة مغلقة في الفاطسة التابعة لمدينة الميادين، حضرها بين 800 إلى 1000 شخص، غالبيتهم من جبهة النصرة والجيش الحر. وداوم، في الشهر الذي قضاه فيها، على سؤال كل من رآه من زملاء المعتقل عن أخيه، لكنه فقد أثره. وبعدما خرج راح يبحث عنه في قرى الريف الغربي إلى أن اهتدى، بعد شهر آخر، إلى مكتب العلاقات العامة في الميادين، الذي يملك قوائم بالقتلى، يقال إن عدد الذين تضمهم 600 شخص خرجوا من مناطق النظام، تقول روايات إن التنظيم رمى جثثهم في البادية بين دير الزور والحسكة، لكن طالب الأدب الفرنسي يبدو متأكداً أنها على تخوم قرية حوايج البومصعة التابعة لناحية الكسرة غرب دير الزور.
أخبر مسؤول العلاقات الطالب أن أخاه قتل بتهمة الردة، ورفض إعطاءه أغراض أخيه الخاصة، بينما تعامل المكتب مع آخرين بطريقة مختلفة، إذ حذرهم من العودة للسؤال عن المفقود، وهددهم بالاعتقال.