الأمراض النفسية في إدلب .. ظروف مواتية في ظل البطالة والفقر

Matt Dorfman

تعمل في إدلب ثلاثة مراكز للعناية النفسية والعصبية تتوزع بين الدانا وسرمدا وخربة الجوز، إضافة إلى بعض العيادات المتفرقة لذات الغرض، في محافظة يتجاوز عدد سكانها اليوم ثلاثة ملايين نسمة، حشدهم فيها التهجير والخوف والفقد ولا تستطيع أن توفر لهم أدنى معايير الحياة اللائقة.

في ما مضى اعتاد أبو ضياء النازح من الزبداني ويعيش في الفوعة، على احتساء قهوته والإصغاء لحديث زوجته قبل مغادرته البيت متجهاً إلى عمله في الرخام. 

يدور حديث الزوجة حول متطلبات البيت والأولاد الثلاثة ونتفاً من قصص الجارات، ويستمع أبو ضياء لحديث زوجته بصدر رحب، وفي معظم الأوقات يهز رأسه إيجاباً قائلاً "تكرموا.. حاضر.. على عيني.. إن شاء الله"، ويغادر المنزل متجهاً إلى مكان عمله حتى المساء.

 أصبحت هذه الجلسة من الماضي، فمنذ أن خسر أبو ضياء عمله أصبح دائم الجلوس في المنزل أو متسكعاً في الحارة مع بعض أصحابه. وفي الصباح تشرب أم ضياء قهوتها بينما يقص زوجها أحاديثه عن "أبو مهدي يلي طلق مرتو.. وأبو هاني يلي زعل من بنت حماه"، ويضيق ذرعاً بكلام زوجته عن البيت والأولاد، ودائماً ما يرد عليها بحدة وضجر "ما في.. ما معي..  بكفي حكي ... أنا تارك البيت وماشي"، ويغادر المنزل غاضباً، وهو يشتم ويلعن نفسه وزوجته والأطفال.

 تقول أم ضياء التي شرحت أوجه الاختلاف بين زمنين فصلت بينهما بطالة زوجها "حياتي لم تعد تطاق: فقر وقلة حيلة وثرثرة وأحاديث فارغة يقصها زوجي على مسامعي يومياً".

 تروي الزوجة أنه خلال الفترة الأخيرة أصبح أبو ضياء يعاني من نوبات غضب شديدة دائماً ما تنتهي بكسر الأطباق وضربها مع الأولاد أحياناً. "مرة واحدة قلت لزوجي يجب أن تذهب لزيارة طبيب لمعالجة الغضب، رد علي بصحن السجائر المعدني وترك جرحاً فوق حاجبي" وبحزن كبير أردفت السيدة وهي تشير إلى جرح صغير فوق جبينها "أثره بنفسي أكبر.. هي أول مرة يضربني فيها".

 عند الساعة الثانية بعد منتصف الليل استيقظت السيدة إنعام إثر اتصال جارتها أم ضياء، التي أنهت الاتصال تاركة رسالة صوتية بنبرة خائفة وصوت منخفض حذراً من زوجها الغاضب، تطلب فيها تأمين أدوية اكتئاب (موتيفال) كان اعتاد على تناولها بعد نصيحة أحد الصيادلة.

 كان الخبر الذي سمعته إنعام من جارتها جديداً عليها، علمت بعدها أن زوج جارتها قد أصبح شديد الغضب وكثير الشك، ذات مرة أيقظ زوجته منتصف الليل وهو يحمل سكيناً ويطالبها أن تعترف "مين حاطط أجهزة تجسس ببيتي، أنا عارف بدهن ينتقموا مني وانت معهن". نجت زوجته من بين يديه بأعجوبة بعد أن جمع صراخها الجيران الذين أوقفوه ونقلوه غصباً إلى مركز للرعاية النفسية حيث تلقى حقناً ومسكنات عصبية، وشخّص لاحقاً بمرض الذهان.

 للظروف المعيشية الصعبة وتردي الوضع المادي، والبطالة بشكل خاص دور مهم بالإصابة بالأمراض النفسية، وفق ما يوضح الطبيب النفسي محمد العلي من "مركز النفس المطمئنة" للرعاية النفسية والعصبية في مدينة الدانا.

ويقول العلي أن هذه الأسباب غير مباشرة، ولكن في حال تراكم الأسباب الأخرى كعامل الوراثة والنواقل العصبية والظروف الاجتماعية تصبح النفس البشرية معرضة للإصابة بالأمراض النفسية، فيكون عامل البطالة والتوتر والتفكير الزائد هي الشرارة التي تؤدي للمرض.

قد يكون المريض قد تعرض لقهر واضطهاد كبير في إحدى مراحل حياته، ونتيجةً للضغوطات النفسية التي يعيشها مثل قلة المال والبطالة التي توحي له بالتقليل من قيمته لنفسه، تخلق الشرارة التي تفاقم العقد النفسية التي يبدأ يعانى منها، لتتحول إلى أحدى الأمراض النفسية مثل انفصام الشخصية أو الأمراض النفسية العصبية (الذهان)، وهي من الحالات التي يصعب معها عودة المريض إلى حالته الطبيعية، ويستخدم في علاجها المهدئات والمسكنات العصبية القوية، والتي تدخل المريض بحالات اكتئاب قوية تمنعه من استخدام العنف وتهدأ من نوباته العصبية، وفق الطبيب النفسي.

تروي الجارة إنعام أن وجه جارتها عندما رأيتها بعد أيام عدة، كان واضحاً عليه آثار الضرب، "ولكن عندما قصت لي حكاية زوجها لم أسألها عن السبب..".

 توضح أم ضياء أن زوجها أصبح سريع الغضب، ثم صار يتوهم أموراً غير موجودة ويختلق قصصاً وحكايات يعتقد أنها حدثت معه في الماضي، وذلك منذ أن أصبح بلا عمل وتراجع الوضع المادي الذي أجبر العائلة على العيش تحت خط الفقر لولا بعض المساعدات الخيرية. "ما كنت لأرضى بأن أكمل حياتي معه لو أنه ضربني عن قصد.. لكنه يعاني من وضع نفسي خاص كما قال الطبيب".

تزور مركز النفس المطمئنة المدعوم من منظمة sams (الجمعية الطبية السورية الأمريكية) حوالي 40 حالة يومياً بين مراجعين ومرضى جدد، وبلغ عدد المستفيدين من خدمات المركز التي تتنوع بين العلاجات الدوائية والدعم النفسي حوالي 5000 مستفيد منذ تأسيسه قبل 5 سنوات، وتقدر نسبة المرضى الذين عانوا من إحدى الحالات الذهانية حوالي 20 بالمئة من المراجعين. ومع الحالات العصبية القوية التي يكون فيها المريض مؤذياً لمن حوله يتم تحويله إلى مشفى الأمراض العقلية والنفسية الحادة بمدينة سرمدا.

بعد التزام بالأدوية تبدلت حالة أبو ضياء، فهدأت عنه نوبات الغضب التي كانت تصيبه، إلا أنه بات يعاني من نوبات اكتئاب حادة، لم يعد يغادر البيت معها كما لم يعد قادراً على البحث عن عمل "اشتقت للثرثرة معه.. ولو كانت بدون فائدة" تقول زوجته متحسرة.