مشاهد من وراء القضبان

إلى الذين رحلوا... عبد الله الأقرع وهيثم الخوجة وخليل رشيد وعبد الله قبارة وجرجس وجمال كالو وعمر فوزي وحسين العلي وتاج الدين ريشي وفؤاد ماردلي ورمضان الحسين ومحمد حجار... ذكرى الأيام الحزينة. وإلى الذين يقبعون في معتقلات التعذيب الهمجية... كي لا ننساهم!!!!

ذات مساء صيفي، وكان الهواء يدخل من نوافذ المعتقل، شرد الشاب معتز بذكرياته إلى مدينته الجميلة، إلى الحدائق والمساءات التي كان يجلس فيها على شرفة بيته والمدينة كلها أمامه، إلى الأيام التي كان يجوب فيها الشوارع تحت المطر، إلى أيام لعب الكرة مع أصدقائه. غطى وجهه بالبطانية وبكى. ظلت الذكريات تعانقه طويلاً حتى غلبه النعاس فنام.

وفي أحد أيام الشتاء جاء السجانون مدججين بالعصي والهراوات وطلبوا منه أن يخلع ثيابه، ففعل. ظل بثيابه الداخلية. أدخلوه تحت الدش البارد والكبال المجدولة تنهش جسده. كان يصرخ من الألم والبرد، ومع صراخه كانت وحشية الجلادين تزداد وشتائمهم تتعالى وتتنوع: «لا يعجبك بشار الأسد أيها الحقير؟!! تريده أن يرحل؟!! تريد محاربة الطائفية أيها الوهابي؟! تريد إخراج الإيرانيين من سوريا؟! ومن تريد أن يأتي بدلاً منهم؟ آل سعود أم أمير قطر؟!! هل إيران هي التي تحتلنا أم إسرائيل يا ابن العاهرة؟! كم تدفع لك أمريكا وإسرائيل والسعودية؟». كان الشاب قد فارق الحياة وهم غير منتبهين، مستمرين في ساديتهم. عندما تعبوا أخيراً توقفوا. كان غارقاً بدمائه. أعلنت الطيور والحدائق والأمطار والشوارع وأصوات المتظاهرين أن معتز لم يعد يضج بالحياة. كل سنواته الدراسية، كل ثقافته البسيطة التي اكتسبها من نشاطه السياسي العفوي والحماسي، كل هذا ذهب تحت أقدام همج وبرابرة حدود ثقافتهم سماع علي الديك.

                                                *          *          *

ذات صباح من صباحات حلب الحزينة كان المحامي إبراهيم ذاهباً إلى مكتبه. وصل إلى مدخل المبنى وإذ بأربعة من رجال المخابرات اقتادوه إلى الفرع، وهناك انهالوا عليه باللكمات والشتائم. بعد ساعات أخذوه إلى رئيس الفرع مقيداً. قال أحد العناصر لرئيسه: «سيدي، إنه لا يحب الرئيس!! هل تصدق؟!!». ثم انهال عليه يعضه في كتفه ويديه وهو يصرخ مسعوراً: «ألا تحب بشار الأسد؟!! وهل يوجد في الدنيا كلها من لا يحب بشار الأسد؟!! ولك أمريكا تريد بشار الأسد رئيساً لها، وروسيا وبريطانيا وفرنسا... والعالم كله!». طلب رئيس الفرع من العنصر أن يتوقف ثم سأل المحامي: «كيف تقف مع المجموعات الوهابية وأنت مسيحي؟!! كيف تقف مع عملاء السعودية وقطر وأنت يساري؟!! أنت سرياني وطائفتك متحضرة فكيف تقف مع الإخوان المسلمين ضد البلد وضد صمودنا؟!! ثم كيف تقول إنك لا تحب سيادة الرئيس؟!! هل يوجد في العالم كله رئيس يشبهه؟ إنه دائم الابتسام، عالي الثقافة، وأفضل دكتور في العالم، عدا عن أنه ابن الرئيس الخالد، كيف؟!!!».

أراد إبراهيم أن يقول: «أنتم جميعاً رعاع منحطون وقطاع طرق تتوجكم السفالة. لعن الله سلالتكم القذرة منذ نشوئها إلى يوم يبعثون!!» لكنه خاف، خاف كثيراً... فلم يأت بجواب. كان في داخله حزن عميق وهو يقول لنفسه: «هؤلاء من يحكمنا منذ خمسين عاماً!!». فكوا قيده وأخلوا سبيله. ذهب إلى المنزل منهكاً. رتب أغراضه. وبعد أيام غادر «حضن الوطن».

                                             *          *          *

أبو عادل رجل خمسيني متزن وخلوق. نجار بسيط لا يتدخل في السياسة. محب لأولاده ويقدم لهم كل سبل النجاح. ذات ظهيرة أحد أيام الجمع ذهب إلى مسجد الحي المجاور للصلاة. كان قد سمع أن مظاهرة ستنطلق من هناك. وصل إلى المسجد فرأى الشبيحة ورجال المخابرات يحومون حوله وهم يحملون العصي والسكاكين. دخل وصلى مع الناس. عند انتهاء الصلاة وقف شاب وصاح بأعلى صوته «تكبير» فردد العشرات بحماس «الله أكبر». خرج الجميع وهم يهتفون. ركض أزلام النظام نحو المتظاهرين وبدأوا يضربونهم ويطلقون النار بشكل عشوائي وهم يصرخون: «الله، سوريا، بشار وبس». وقف أبو عادل على الرصيف المقابل يشاهد المظاهرة بزهو. في ذلك اليوم سقط أربعة شهداء والعديد من الجرحى وعشرات المعتقلين الذين كان أبو عادل أحدهم. يومان في الفرع وأبو عادل تحت التعذيب. يريدون منه أن يعترف بعلاقته مع المتظاهرين وهو ينكر أي علاقة. توسل إليهم بكل أسماء الله الحسنى والأنبياء والصحابة، وباسم رئيسهم... لكن عبثاً!! فجأة خرجت من فمه كلمات لا يعرف كيف نطقها: «كرمى للإمام علي»، فتوقف الضرب وكأن تياراً كهربائياً مسهم!! وفي اليوم التالي أفرجوا عنه.