محاولات عبور أخرى فاشلة لسوريين بائسين على الحدود التركية

متداولة لعابرين للحدود

ارتفعت تكاليف التهريب كثيراً، منذ المرة الأولى التي حاولت فيها عبور الحدود بين محافظة إدلب وتركيا، كان ذلك في كانون الثاني من العام الجاري، دفعت وقتها مبلغ 350 دولاراً عن كل شخص من عائلتي، عدا طفلتي الصغيرة، فقانون التهريب المتعارف عليه هنا يستثنيها، طالما أنها تحمل على الأيدي.

اليوم فاوضت المهرب في مبلغ 700 دولار عن كل شخص، لكنه لم يقبل بأقل من 750 دولاراً. يحدث تضييق كبير على الحدود من الجانب التركي، وكلما ازداد هذا التشديد ارتفع سعر التهريب، حتى وصل الأمر ببعض المهربين إلى طلب مبالغ خيالية تتراوح بين ألف وألف وستمائة دولار.

ركبنا في سيارة بيك اب كبيرة، وعبر بنا السائق الشوارع الضيقة لقرية (...) الحدودية بغاية السرعة، وعندما اقتربنا من الحدود أطفأ مصابيح السيارة كي لا نلفت الانتباه. سارت السيارة المحملة ب 15 راكباً معظمهم من النساء والأطفال، ثم نزل الجميع، وبدأت مرحلة السير على الأقدام.

"هل سقي جميع الأطفال المنوم؟" يسأل أحد الدليلة (الأدلاء)، وهم الشبان الذين سيصاحبوننا طوال الرحلة. تذكرت الشابة ريم أنها لم تسق طفلتها الرضيعة المنوم. لكنها لم تتفوه بأي كلمة... خلال سنوات طويلة من التهريب كان لجرعة المنوم الكبيرة آثاراً سلبية على معظم الأطفال. تقول ريم "بعد ربع ساعة من إعطائه جرعة المنوم ينام الطفل قرابة خمس ساعات، لكنه عندما يصحو لا يكفّ عن البكاء من تأثير الجرعة". في السنة الماضية أدى الإسراف في استعمال خلطة المنوم -عادة تصنع في صيدليات إدلب- إلى حدوث اختناقات لدى عدد من الرضع أدت لوفاتهم.

الطريق شديد الوعورة، لدرجة أن عدداً من الركاب وقعوا في الحفر الكبيرة التي يمتلئ بها الطريق المكتظ بأشجار الزيتون. عند كل 100 متر تقريباً يتوقف الركاب قرابة ربع ساعة، حتى وصلنا إلى الجدار بعد خمس ساعات.

بقي يفصلنا عن الجدار قرابة 200 متر.. هذه المسافة هي المرحلة الأصعب والأخطر، لأن الأرض جرداء إلا من حقل شعير. أثناء سيرنا انبثق ضوء كبير فجأة، فارتمى الجميع في الحقل، وهكذا بقي ضوء الكشاف طوال ساعتين ينطفىء ثم يضيء. "هل أحسوا بنا" يسأل محمد الذي استلقى مع طفلته الصغيرة النائمة على الأرض، يرد الدليل "لم نكشف.. توكلوا على الله وسوف تباتون الليلة في الريحانية". كعادتهم كذب المهربون علينا، وعدني المهرب بأنني سأكون قرب الحدود عند المغرب، وبعد ساعة سأكون آمناً في بيت بمدينة الريحانية، الساعة الآن الثالثة صباحاً، وما زلنا تحت الجدار من الطرف السوري.

في هذه الأثناء قصّ أحد الشبان (التيل) الشائك الذي يعلو الجدار، وجّه ضوء الكشاف نحو الجدار، فسارع الشاب إلى الارتماء في الحقل؛ هنا يسكت الجميع، لكن العائلات التي تحمل الأطفال تضع أيديها على قلوبها، فربما يستيقظ أحد الأطفال ويزعق بالبكاء، ما يفسد عملية التهريب، ويعرض الوالدين للتقريع من قبل الدليلة والركاب.

"هيا بسرعة اعبروا... شكلوا صفاً طويلاً واصعدوا إلى الجدار بسرعة" يصيح الدليل، بينما يدفع الركاب لصعود السلم؛ يخشى الجميع -لاسيما النساء- من هذه الخطوة، تقول ريم "أكثر ما يقلقني هو صعود السلم، والقفز إلى الطرف الآخر من الجدار. نحن معرضون لاكتشاف أمرنا في أي لحظة، كما أن السلك الشائك الموجود في الأعلى قد يؤذينا". عملية القفز مخيفة أيضاً. حدثت حالات كسر في القدم أو في الورك في عمليات تهريب سابقة جراء الارتفاع الكبير للجدار.

عبرنا متخطين الجدار، ثم الطريق الذي يليه. واجهنا صعوبات كثيرة خلال جرينا بعيداً عن الجدار، فهناك العديد من الخنادق التي حفرتها الجندرمة. مشينا قرابة 400 متر في الحدود التركية، إلا أن الحظ لم يكن حليفنا، كما في كل مرة، فقد مرت سيارة تركية ووجهت مصابيحها نحونا، ثم حملتنا سيارة عسكرية إلى أحد المستودعات، حيث شرع الأتراك بتفتيش الحقائب، وتسجيل الأسماء بشكل اعتباطي.

عند إلقاء القبض علينا صرخت إحدى السيدات باحثة عن طفلها الرضيع. خلال عبور الحدود تعبت سعاد من حمل طفلها، لذا فقد أعطته لأحد الدليلة الذي مشى بالقرب منها، لكن الشاب هرب في لحظة انكشاف أمر الركاب... بعد ساعة ألقى حرس الحدود القبض على شاب صغير يحمل طفلاً رضيعاً. قال الشاب إن الدليل أعطاه الطفل وولى هارباً "حملت الطفل دون أن أعرف أين والدته، وسرت باتجاه تركيا، لكني كنت تائهاً حتى وجدني حرس الحدود".

بقينا في المستودع الحار والمليء بالبعوض حتى ظهر اليوم التالي. اقتادنا الأتراك إلى مشفى الريحانية للتأكد من سلامتنا، وعدم تعرضنا للضرب أو الأذى من قبل الجندرمة، ثم حملنا باص الجندرمة إلى أحد المخافر، ليتم تبصيمنا على أوراق، يقول بعض الركاب إنها تتعلق بمغادرتنا بشكل اختياري.

وصلنا باب الهوى بعد العصر، وعاد كل راكب إلى منزله ليرتاح بعد محاولة عبور اعتيادية فاشلة.