- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
في بداية الثورة السورية .. كان حذري بسيطاً إلى حد انكشافي للجميع
مع انطلاق الثورة كنت طالباً في كلية الحقوق بالحسكة وأعيش في منزل أهلي شمالها. كنت في السن الذي يتلقى فيه السوريون قوانين تجنب الانزلاق إلى مناطق "المخابرات"، لذلك كنت متحمساً للثورة ولكني أحاول التخفي ما استطعت. أحد اصدقائي من القرية كان يخرج في مظاهرات جامعة حلب حيث يدرس، وكان يتصل بي أثناءها ليسمعني أصوات المتظاهرين فيزداد حماسي؛ أما في المنزل فقد صار أبي يطلب خفض صوت التلفاز عند مشاهدة أخبار الثورة.
وبخني أبي يوماً "شعب مؤيد لا تستطيع تغيرهم. حتى إن تحولوا إلى الثورة، فالثورة لن تنجح بمثلهم"، وفكرت بعدها كثيراً في "سبب منطقي" يحول بين أهل منطقتي والثورة ضد النظام، لم أستطع التسليم بفكرة "التأييد" بحد ذاتها، لذلك تعلقت بالسبب الاقتصادي. قريتي صغيرة فيها مدرسة ثانوية رغم أنها لا تتجاوز المئة بيت، اسمها "تل الأمير" تتبع لناحية "أبو راسين"، الواقعة بين مدينتي الدرباسية ورأس العين وتعتبر ثقل المنطقة الزراعي الذي شهد طفرة اقتصادية منذ تسعينيات القرن الماضي، حتى أن سائقي حافلات النقل العام كانوا يطلقون عليها "خط الخليج".
بحذر شديد صرت أوجه النقاشات مع أصدقائي المقربين في القرية إلى أحاديث التظاهر، حتى ألفت لدى بعضهم قناعة بضرورة الثورة، لكنهم تراجعوا في ما بعد. وجدت ضالتي في معلم الرياضيات من حي بابا عمر بحمص، فصار صديق الحديث عن الثورة بعيداً عن أصدقاء القرية، حتى استدرجتُ في المقهى إلى الدفاع عن المعارضين بعد أن كال لهم الحضور شتائم من العيار الثقيل، فتحول الأمر إلى عراك انهال فيه علي عشرة شبان بالضرب، فانطلق لساني وأنا ملقى على الأرض بموجة شتائم من عيار أثقل لعائلة الأسد والنظام.
كان علي الحذر أكثر بعدما ازداد الحماس والخوف. أنشأت حساباً على "فيسبوك" مستعيناً بأحد الأصدقاء في الإمارات، واسميت الحساب باسم "أبو حامد الحامدي"! استطعت من خلاله الوصول إلى بعض الثوار المعارضين في الحسكة لكن نشاطنا المشترك وقف عند هذا الحد، وبقيت أبحث وحدي عن دور أعبر فيه عن نفسي.
نهاية نيسان 2011 خرجت بأول مظاهرة لي في رأس العين. في الطريق من البيت إلى المدينة كنت أظن أن الناس تراقبني، وكأنهم يعرفون أنني ذاهب للتظاهر. وأمام الجامع الكبير بعد انتهاء صلاة الجمعة واجهتني جموع المتظاهرين الذين يشكل الأكراد غالبيتهم، وفي حالة من الذهول والوحدة شاهدت صفوفهم تنشق لتدخل وسطها مجموعة متظاهرين صغيرة، فهمت بعدها أن تلك المجموعة متظاهرون من العرب القادمين بمعظمهم من الريف، والذين يقدم لهم المتظاهرون الحماية بوضعهم وسط الجموع.
هنا زال الخوف، خاصة بعدما رأيت صديقاً من الثانوية في المظاهرة، وكانت المرة الأولى التي أشعر بقوة وجرأة وعدم اكتراث بالنظام، ولم أعد أفكر بمآلات الأمر، حتى لو كانت الاعتقال أو حتى القتل. لكن الحذر عاد عندما عدت إلى القرية وأخبرت الأصدقاء أنني خرجت بمظاهرة في رأس العين، لم يصدقني أحد، بل لم يصدقوا أن مظاهرات خرجت في رأس العين!.
في الجامعة بداية حزيران من ذات العام، طلبت من إحدى الزميلات أن تنتظرني على الدرج للمراقبة، وأن تبلغني بالهاتف إن صعد أحد ما إلى الطابق الثاني حيث صعدت لتحطيم صور بشار وحافظ الأسد في القاعات، فوافقت لظنها أن لدي "موعد غرامي"، ولكنها أصيبت بالهلع حينما عرفت بالحقيقة لاحقاً. كان الهلع أكبر مما توقعت، إذ صدمتني بعدها بفترة إحدى الزميلات بقولها لي أنني يجب أن أغادر إلى تركيا، لأن "المعارضة ليس لها مكان في سوريا".
حاولت طوال الفترة التي كنت أذهب فيها إلى الجامعة، العمل على إخراج مظاهرة طلابية، لكن الطالب الوحيد الذي استطعت فتح الموضوع معه واجهني بالرفض البات بحجة وقوع الكلية قرب المربع الأمني، ما جعلني أقتنع بالعدول عن الفكرة، لكن طموحي بإخراج مظاهرة واحدة في ناحية أبو راسين ظل قائماً -رغم كل شيء مر على المنطقة- حتى الآن.