في الوقت الذي كان «مؤتمر فندق الريفييرا» يدشن ما سيسمى بمنصة بيروت التي ستعلن «مقام» بشار الكيماوي خارج التداول الدوليّ، و«انتهاء الحرب على النظام» على ما قال لؤي حسين، كان النظام المذكور يعيد نصب تمثال حافظ الأسد في قلب مدينة حماة، في ذكرى تدميرها قبل 35 عاماً على يد صاحب التمثال.

لا تقتصر مهمة منصة حزب الله هذه، فقط، على التشويش على وفد المعارضة في مفاوضات جنيف المرتقبة في العشرين من الشهر الحالي، بل تتجاوز ذلك لتنضم إلى حملة التيئيس الكبيرة التي انطلقت، بعد سقوط حلب، لإقناع الناس بموت الثورة وعودة سيطرة النظام على سوريا.

وترمز إعادة تمثال حافظ إلى مدينة حماة إلى نوعية المستقبل الذي ينتظر السوريين في حال استتب الأمر من جديدٍ للعصابة الحاكمة: نسخ التجربة الأسدية بعد انتصاره الكاسح على حماة في العام 1982، بحيث تتحول الكارثة التي تعرّضت لها المدينة إلى أمثولةٍ تضبع السوريين «إلى الأبد». كل سوريٍّ متهمٌ وتحت الطلب حتى تثبت «براءته». أي بعكس القاعدة القانونية المعروفة. ولا يأمن أيّ سوريٍّ على نفسه أو عائلته أو أمواله إلا برضى النظام وأجهزته وشبيحته.

ومن زاوية النظر هذه، يمكن اعتبار تقرير منظمة العفو الدولية المنشور حديثاً بعنوان «المسلخ البشري» الذي وثق إعدام 13 ألف شخصٍ في سجن صيدنايا حتى نهاية العام 2015، دليلاً مستقبلياً للسوريين، في حال استعادة النظام سيطرته على سوريا، وأداةً لضبعهم، إذا أخذنا بنظر الاعتبار غياب أيّ إرادةٍ دوليةٍ لمحاسبة بشار الأسد وصحبه المتهمين بإعطاء الأوامر لمرتكبي الفظاعات التي يحفل بها تقرير الأمنستي.

لا أعني بالطبع أن هذا ما قصده معدو التقرير، بل هم أرادوا أن يوثقوا أفعالاً تدخل في إطار الجرائم ضد الإنسانية، من شأنها سوق الجناة، بأيديهم أو بأوامرهم، إلى قفص المتهمين في المحاكم الدولية. المقصود أن النظام الذي اعتاد، منذ اغتيال الحريري، على الإفلات من العقاب، ولا يخشى شيئاً اليوم في ظل الحماية الروسية وغض النظر الدوليّ الأوسع، ستخدمه تقارير من هذا النوع ليقول للسوريين من خلالها «هذا هو المصير الذي ينتظركم»، على رغم إنكاره لكل ما ورد في التقرير. فالإنكار هو ردة الفعل الطبيعية للمجرم أمام أيّ محكمة، في حين يعرف النظام أن السوريين يعرفون أن ما ورد في التقرير ليس إلا جزءاً صغيراً من الفظاعات التي يرتكبها كل يومٍ في السجون ومراكز الاعتقال وخارجها على السواء. وهذا ما يريده بالضبط. أي أن يعرف السوريون أنه مجرمٌ سفاح، لا رادع يردعه عن أيّ شيء، فيعودوا عبيداً كما كانوا قبل ثورتهم العظيمة.

هل هذا ممكن؟ هل يمكن تكرار تجربة انتصار النظام على سوريا في 1982 وتحويله السوريين إلى عبيدٍ مرّةً أخرى؟

هذا ما يأمله النظام وقاعدته الضيقة من الموالاة التي رأت في الثورة خطراً وجودياً على ذاتها. يغريهما بذلك أن كل الدمار الذي ألحقاه بسوريا، مجتمعاً وعمراناً ودولةً، قد مرّ بلا حسابٍ أو عقاب، على رغم أنه كافٍ لإسقاط عشرة أنظمة. فخلافاً للشائع من أن المعارضين راهنوا على الخارج، النظام وموالاته أكثر رهاناً بعد على ذلك الخارج. ليس فقط الدول الحليفة كإيران وروسيا، بل أكثر من ذلك: الدول المعادية، أو المعتبرة كذلك. لذلك نرى كيف يحتفي إعلام الممانعة بأيّ اختراقٍ من تلك الجهة: وفودٌ برلمانيةٌ غربيةٌ أو إعلامٌ غربيٌّ أو تصريحات الساسة الغربيين التي تعبّر عن إمكانية إعادة تأهيل النظام واستعادته لشرعيته، أو عن تفضيله على «الإرهاب» باعتباره أقل سوءاً منه.

لا أحد يهتم بالسوريين أنفسهم، فيتساءل عما إذا كانوا سيقبلون بالعودة إلى نظام الاستعباد. قد يبدو هؤلاء هم الحلقة الأضعف في التأثير على مصيرهم ومصير بلدهم، لكن ما تغيّر فيهم، خلال سنوات الثورة والحرب، كبيرٌ جداً بما لا يسمح بتكرار تجربة ما بعد 1982. وربما أهم عناصر هذا التغيّر الكبير هو اكتشافهم أن صمتهم على كارثة حماة لم يجنبهم مصيرها. قد لا يعرف معظم السوريين اليوم ما الذي يمكن عمله في هذه الشروط الأسوأ على الإطلاق، لكنهم بالتأكيد يعرفون ما يجب ألا يفعلوه: القبول بالعبودية مرّةً أخرى.

سوريا اليوم «عظمةٌ في فم كلب» على ما قال شاعرها الجميل الراحل رياض الصالح الحسين، تتناهشها دولٌ وميليشياتٌ ومنصاتٌ وكلاب. قد لا تصبح كما أراد لها السوريون، لكنها بالتأكيد لن تعود «سورية الأسد» مرّةً أخرى.