البوكمال... من التحرير الأول إلى معالم التحرير الثاني

عبر تاريخها الحديث رفدت سوريا بالعديد من رجال الفكر والسياسة؛ من الشاعر شفيق الكمالي إلى الدكتور يوسف زعين آخر رئيس حكومة عشية انقلاب حافظ الأسد. وهو ما زاد من محنة هذه المدينة وعزلتها إذ عوقبت على مدى عقود، مما جعلها من أوائل المدن المنتفضة ضد النظام.

الدكتور فارس الفارس، أحد ثوار المدينة ومثقفيها، يلخص بصورة موجزة ما حدث في البوكمال خلال سنوات الثورة حتى دخول داعش إليها:

في البداية خرج عشرات الشباب يهتفون للحرية ويطالبون بالإفراج عن أحد المعتقلين، وتجمهر حولهم الأهالي مما أعطى المتظاهرين شرعية. وسرعان ما نزلت الجماهير إلى الساحة حتى وصلنا في نهايات 2011 إلى مظاهرات تجاوزت الـ30 ألف مشارك، فحاصرها النظام وقصفها مما دفع باتجاه تأسيس كتائب الجيش الحر وزيادة وتيرة العمل، حتى وصلنا إلى تحرير البوكمال في 17/11/2012، وتحرير أول مطار في سوريا، هو مطار الحمدان قرب المدينة، بعيد ذلك.

في هذه الأثناء ظهرت جبهة النصرة كفصيل مقاتل بسيط. كانت أعدادهم قليلة ولكنهم سرعان ما استمالوا مجموعات من المقاتلين من فصائل أخرى، حتى كانت بيعة كتائب «جنود الحق» لهم، ما أعطاهم قوة وعدداً. وشكلوا، بالتعاون مع جميع الفصائل، هيئة شرعية. سبقها في الشهر الثامن من عام 2012 تشكيل المجلس المحلي الأول للبوكمال، الذي عمل بجهد وقدم ما يمكنه ضمن حدود إمكانياته. كما نشأت العديد من المنظمات والهيئات المحلية التي كان من أهم نشاطاتها تنظيم العمل المدني ودعم اللاجئين الذين كانت البوكمال إحدى أكبر وجهاتهم من المحافظة ومن خارجها.

بعد زيادة قوة جبهة النصرة، بقيادة فراس السلمان ومحمد ناجي الراوي، سيطرت على كل مفاصل الحياة في البوكمال وقضت على المجلس المحلي. لتعود الجبهة نفسها إلى بيعة تنظيم الدولة في منتصف عام 2014، وتسلم المدينة بالكامل للتنظيم الذي عجز عن احتلالها قبل ذلك.

البوكمال بالنسبة لداعش

تشغل المدينة موقعاً استراتيجياً هاماً، باعتبارها الممر الأساسي الذي يربط العراق بسوريا ويعطي التنظيم سهولة الحركة والتنقل براً ونقل آلياته العسكرية وكذلك تنقل مقاتليه ذهاباً وإياباً بين البلدين، خاصة إذا اعتبرنا أن قوة التنظيم البشرية هي في العراق، ما يجعل المدينة معبراً لا يمكن لداعش أن تستغني عنه بسهولة. وتعطي جغرافية المدينة وجوارها للدواعش قدرة على التنقل والمناورة، بما يوفره نهر الفرات بامتداده عبر واد تحيط به التلال التي قد تشكل ملاذاً آمناً لعربات التنظيم وعناصره من الطيران، فضلاً عن وقوع البوكمال بين باديتي الشامية والجزيرة وقربها من مواقع صحراوية هامة مثل محطة الكم أو T2. وكذلك تنبع الأهمية الكبرى التي تتمتع بها البوكمال من آبار نفط الحقول القريبة؛ التنك في الجزيرة والورد في الشامية. وكلا الحقلين، وخاصة الأول، قدما لداعش موارد مالية هائلة.

ومثل أي مكان آخر تحت سيطرة داعش غابت المدينة عن الإعلام الا بما يتمكن ناشطون من تسريبه على وسائل التواصل الاجتماعي. وتسارعت التسريبات الإخبارية مؤخراً مع الحديث عن قرب تحريرها على يد فصائل الجيش الحر التي يتحدر أغلب مقاتليها من دير الزور، مثل أسود الشرقية ومغاوير الثورة، والتي اتخذت البادية منطلقاً لعملياتها وحررت مساحات شاسعة منها مقتربة من المدينة، وهي تضع البوكمال نصب عينيها بعدّها أول أهداف التحرير في المحافظة.

وقد صارت البادية، مع التدخل الأميركي المباشر، مسرحاً لمواجهات متكررة مع النظام وحلفائه التابعين لإيران، في محاولاتهم التقدم نحو بوابة التنف الحدودية، ما قوبل برفض أمريكي قاطع، لحماية قاعدتهم المنشأة حديثاً وحلفائهم من فصائل الجيش الحر. وكانت الحصيلة حتى الآن هجومين لطائرات التحالف على قافلتين عسكريتين للنظام وحلفائه حاولتا التقدم نحو التنف لاستكمال المشروع الإيراني بربط مناطق نفوذه برياً من لبنان إلى سورية إلى العراق حيث يسيطر ما يعرف بالحشد الشعبي.

يقول المقدم مهند الطلاع، قائد مغاوير الثورة، لـ«عين المدينة»: «البوكمال هدفنا القادم، فهي نقطة الانطلاق لتحرير دير الزور، والسيطرة عليها تضعف ارتباط داعش بالعراق وبحاضنتها، وبالتالي تقطع طريقاً أساسياً ومعبراً رئيسياً تستخدمه لنقل القوى والوسائط والمناورة، وسنحرمها من هذه الميزة». وإذا حاول الحشد دخول الأراضي السورية، يضيف الطلاع: سنعامله كعدو كما نعامل داعش، ولن نسمح له.