من البيانونيّ إلى طيفور: الجهاز العسكريّ يسيطر على الإخوان السوريين

  حين ظهر الجزء الأوّل من كتاب «هذه تجربتي وهذه شهادتي»، الذي تضمّن مذكرات القياديّ والمنظّر الإخواني البارز الشيخ سعيد حوّى، عام 1987م، كان مخيباً للكثيرين. إذ تجنب الخوض في تفصيلات مرحلة الصدام الدامية بين الإخوان المسلمين ونظام حافظ الأسد، وهي المرحلة التي يهتمّ بها القارئ أكثر من ظروف نشأة حوّى وشبابه... إلخ. والآن، وبعد مرور كلّ هذه السنوات، يظهر الجزء الثاني من هذه المذكرات، ولكن منقوصاً هو الآخر.

في مقدمة هذا الكتاب، الذي ظهر إلكترونياً منذ مدّةٍ قصيرة، تأتي كلمةٌ لزوجة الشيخ، توضح فيها أنه طلب من أسرته نشر هذا القسم بعد وفاة حافظ الأسد. دون أيّ تبريرٍ لتأخر نشره عن ذلك التاريخ حتى الآن، وعن سبب غياب الباب الثالث من هذا القسم نفسه، والمتعلّق بمرحلة ما بعد أحداث حماة، كما يشير حوّى في المقدّمة، بعد أن يذكر أنه سيتناول في الباب الأول مرحلة ما قبل المواجهة مع النظام، وأسبابها وشخصياتها، وفي الثاني وقائع هذه المواجهة حتى نهاية أحداث حماة.
ولا تتوقف الخيبة هنا، إذ يبدو الكتاب متواضع الخلاصة ضيّق الرؤيا، يهتمّ أساساً بتبرير مواقف قيادة الإخوان أثناء الأحداث، والتي كان المؤلف عضواً شبه دائمٍ فيها، والدفاع عما وُجّه إليها من اتهاماتٍ كثيرةٍ، ولا سيما من أعضاء وأنصار تنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» الشقيق. وإذا كانت رواية الطليعة لمجريات الثمانينات، ولا سيما الشهادة المطوّلة لعدنان عقلة، تلقي باللائمة على عدنان سعد الدين بشكلٍ رئيسيّ، وكانت رواية سعد الدين، التي أثبتها في مذكراته ومقابلاتٍ عديدة، تردّ التهمة باتجاه تهوّر عقلة نفسه؛ فإن سعيد حوّى يأتينا بـ«متهمٍ» جديدٍ لا يزال لاعباً مركزياً في قيادة الإخوان المسلمين السوريين، هو علي صدر الدين البيانوني.
فوفق رواية حوّى، اضطرّت الجماعة الأم إلى اتخاذ القرار بمواجهة نظام حافظ الأسد عسكرياً، بعد أن لم يفرّق هذا النظام بينها وبين الطليعة التي قامت بمجزرة المدفعية، ونتيجة ضغط قواعد جماعة الإخوان المتأثرين بالطليعة وأدائها على الأرض. ونتيجةً لذلك أنشئ جهازٌ عسكريٌّ في القيادة تولاه البيانوني، الذي كان نائباً للمراقب العامّ سعد الدين. ونتيجة السرّية التي أحيط بها هذا العمل العسكريّ، والمركزية الشديدة التي اعتمدها البيانوني، وعدم ثقته إلا في القليل من مساعديه؛ وجد أعضاء القيادة أنفسهم بعد مدّةٍ –بمن فيهم المراقب العام نفسه- بعيدين عن معرفة تفاصيل ما يجري، بعد أن ربط البيانوني كل الخيوط في يديه.
ومن جهةٍ أخرى، وجد هذا المسؤول العسكريّ نفسه مثقلاً بالأعباء التي لا يستطيع الوفاء بها كلها، ويرفض بشراسةٍ التخلي عنها أو تقليصها، فكان مصير كثير من التقارير التراكم على مكتب نائب المراقب العام، على أهميتها وحساسية المرحلة. ومن ذلك أن القيادة طلبت من مراكز المحافظات تقديم خططٍ عسكريةٍ خاصةٍ بكلٍّ منها، وأنجزت المراكز هذه الخطط التي بقيت أشهراً على مكتب البيانوني دون أن يجد الوقت لقراءتها. وكذلك قل عن المعلومات المسرّبة عن أوضاع الجيش السوريّ، من قبل ضباطٍ عاملين أو مسرّحين. كما قدم نائب المسؤول عن العمل الخارجيّ للقاء البيانوني، الذي لم يستطع أن يخصّص وقتاً لهذا اللقاء طيلة أسابيع قضاها الزائر في انتظاره دون جدوى. وإذا طرحت هذه المسائل في القيادة انفجر البيانوني غاضباً، وربما انسحب من الجلسة أو لوّح بالاستقالة، حتى لتكاد ترى في اجتماعات قيادة الإخوان سلسلةً من المشاحنات.
وربما لهذا السبب أراد حوّى أن لا تنشر مذكراته إلا بعد وقتٍ كافٍ، ومدّدت أسرته هذا الزمن إلى الآن، لما يمكن أن تنبشه هذه الصور من خلافاتٍ داخل التنظيم، ومن إعطاء الأدلة لخصومه على مدى قصور قيادته عن المسؤولية التي كانت ملقاةً على عاتقها في ذلك الوقت العصيب. وربما على المسؤولية التي سعى هذا التنظيم بكل قواه للإمساك بها، من وراء ستارٍ، أثناء الثورة السورية. فوفق كتاب حوّى، وبعد أحداث حماة وانهيار الجهاز العسكريّ للتنظيم وثبوت فشل أدائه، ومحاولته –رغم ذلك- السيطرة على الجماعة؛ اضطرّ البيانوني إلى الاستقالة من رئاسته. وبعد مدّةٍ من التخبط والقيادات المؤقتة السريعة التي لم تستطع استيعاب الملفات، آل الجهاز أخيراً إلى... فاروق طيفور!