معايشة الزلزال من سيارة

فرق الإنقاذ في الشمال السوري

في المناطق التركية التي أصابها الزلزال بالهلع والتوتر والهواجس دون أن يكون له تأثير على الأرواح، كان الناجون معلقين بين برودة الطقس القاسية وخوفهم من بيوتهم التي قد تقع في أي لحظة. عندها اكتظت بهم الجوامع والحدائق والمقاهي للبحث عن مكان يلجأون إليه في الخطوة التالية، بينما شكلت السيارات الخاصة لدى من يملكها ملاجئ اجتمعت في الساحات والحدائق والمناطق المفتوحة، حيث قضيت في إحداها يومين مع عائلتي رفقة المئات من العائلات في سياراتهم، ثم صارت سيارتي بعدها الخيار الأول الذي أتوجه إليه كلما أحسسنا بهزة ارتدادية.

كان لتوقيت الزلزال الأول في الساعة 4:17 من صباح السادس من شهر شباط المنصرم، أثر كبير في زيادة عدد ضحاياه الذين كانوا نياماً في أسرتهم، دون أن يكون لهم أن يأتوا بردة فعل مناسبة لتفادي الكارثة، بينما كان لبرودة الطقس القاسية أثر أقل وطأة ولكنه موجود على كل حال، في سقوط المزيد من الضحايا، الذين عادوا إلى منازلهم هرباً من تلك البرودة، بعد أن خرجوا هائمين على وجوههم، وكان سعيد الحظ من امتلك سيارته الخاصة التي استخدمها كمكان إقامة مؤقت إلى أن تستقر الظروف.

تبعد ولاية ماردين التي أسكن فيها قرابة 300 كم عن ولاية كهرمان مرعش حيث مركز الزلزال؛ مسافة كانت كفيلة بأن تهر المنازل والأبنية بشدة، وتدفع سكانها إلى الهيام في الشوارع. بعد انتهاء الهزة الأولى خرجت مع أمي وزوجتي وطفليّ من البناية إلى الشارع، فلفت نظري قيام الكثيرين من أصحاب السيارات الخاصة بتشغيلها والانطلاق بها، فاعتقدت للوهلة الأولى أن الخوف عليها دفعهم إلى الابتعاد بها من تحت الأبنية، وعندما سألت أحد الجيران قال لي أنه سيتوجه بالسيارة إلى مكان آمن أفضل من البقاء تحت الأسقف التي ربما تنهار في أي لحظة. عندها انطلقت بسيارتي رفقة عائلتي إلى الأماكن الخالية البعيدة عن الأبنية السكنية، حيث كانت مئات السيارات الخاصة التي تحمل أصحابها وعائلاتهم مركونة هناك.

رغم أن مدينة ماردين بعيدة نسبياً عن مركز الزلزال، إلا أن الخوف كان واحداً، وطرق التعامل مع الكارثة واحدة. قال لي علي (36 عاماً) المقيم في مدينة العثمانية في اتصال عبر واتساب، أنه انطلق بسيارته الصغيرة مسرعاً باتجاه الطريق العام القريب من مسكنه، وعند وصوله إلى هناك تفاجئ بوجود 12 شخصاً معه في السيارة، زوجته وأطفاله الثلاثة وأمه وأبوه وأخوه وزوجته وأطفاله. وأكمل "بقينا على هذا الحال إلى الساعة 12 ليلاً، عندها أنزلت مروحيات تابعة للجيش التركي خياماً في أكثر من موقع، ولحسن الحظ كان أحد المواقع ملعب قريب منا، حيث بدأ الأهالي وبمساعدة من أفراد الجيش التركي ببناء الخيام. فانتقلنا من السيارة إلى الخيمة". ويعلق الآن بشئ من التندر أنهم في الأحوال الطبيعية لن يستطيعوا حشر أنفسهم في سيارته الصغيرة.

يوسف (42 عاماً) المقيم في ولاية شانلي أورفا منذ سنوات، حدثني عن تجربته في معايشة الكارثة من سيارته قائلاً، أن استخدامه للسيارة كان فقط لعدة ساعات، خاصة بعد الزلزال الذي ضرب المنطقة بعد الساعة الواحدة والنصف عصراً، والذي أقنعه بترك المدينة برمتها إلى ريفها رفقة عائلته وعائلة من الجيران. أوضح يوسف أن خطته كانت تقضي التوجه إلى مدن غرب تركيا، لكنه لم يستطع تطبيقها بسبب تضرر الطريق الواصلة بين ولايتي العثمانية وغازي عينتاب، ما اضطره إلى اللجوء إلى أحد أقربائه في ريف شانلي أورفا، حيث أقامت النساء في كرفانة والرجال في سيارته. "أقمنا على هذا الحال 3 أيام، ثم تابعنا طريقنا إلى مدينة نصيبين في ولاية ماردين حيث نقيم إلى اليوم".

وروى لي محمد نور (32 عاماً) الذي كان يقيم في مدينة غازي عينتاب أنه في البداية خرج مسرعاً بمنامته، ومن أمام البناية اطمأن بالجوال على زوجته وأطفاله في بيت جدهم في ولاية كهرمان مرعش، ثم أعادته إلى البيت برودة الطقس الشديدة، حيث ارتدى المزيد من الألبسة وحمل مفتاح السيارة. اتخذ نور سيارته منزلاً لثلاثة أيام يأكل وينام فيها، واستضاف فيها صديقين أرسلا عائلتيهما إلى اسطنبول وبقيا قريباً من بيتيهما. كان الجو يجبر المقيمين في الملجأ المتنقل أن يتدثروا بالأغطية طوال الوقت، وفي بعض الأحيان يدفئون السيارة بتشغيل مكيفها لبعض الوقت، خاصة في الليل أثناء نومهم حين ينجحون في الوصول إليه، أما حين يبتعد النوم فيذهبون لزيارة أصدقاء آخرين لاجئين في سياراتهم أو يأتي أولئك لزيارتهم.

كان الجوع وسكون الأرض يغري المقيمين المؤقتين في السيارة أن يتسللوا إلى أحد منازلهم بسرعة لإخراج بعض الطعام، لكنهم يفعلون ذلك على حذر؛ يركن نور السيارة في ساحة أو قرب حديقة على مقربة من أحد منازل الثلاثة، ومنها يخف صاحب المنزل مسرعاً ليحمل ما يؤكل من مطبخه مثل الخبز واللبنة والمرتديلا والجبنة، ويعود مسرعاً إلى السيارة/ الملجأ، التي تركها كل واحد منهم حين عرف الخطوة التالية. ونور بعد أن اصطحب عائلته، توجه إلى مدينة جيلان بينار في شانلي أورفا حيث يقيم الآن.

قضيت بدوري رفقة عائلتي يومين في السيارة، التي تحولت إلى غرفة نوم ومطبخ ومعيشة وترفيه. كان الهم الأول التزود بالوقود كحال عشرات السيارات التي وقفت في طوابير المحطات، ثم البحث عن محلات نشتري منها الطعام والماء، وحيث أجد كنت أركن السيارة في أقرب ساحة وأتوجه بمفردي إلى المحل وأخرج على عجل. أما اللجوء إلى الجامع كحال الكثير من الناس، فكان مجرد خاطرة حاولت تجريبها، لكن صدمة الزلزال جعلتني أرى المأذنة تنقض علي كلما اقتربت منها أكثر، وتفضيل الحديقة حيث نجلس لبعض الوقت ثم نعود إلى السيارة متجمدي الأطراف. وعندما ننتهي من تنفيذ كل تلك المهام، ونحس ببعض الطمأنينة والسكون، نتجول في شوارع المدينة بالسيارة أيضاً.