ليس لدى تنظيم الدولة خبراء وبفضل الفنيّين والعمال المحليّين تستمرّ بعض الخدمات

لا شكّ في أن الجسم المقاتل في تنظيم "الدولة الإسلامية" جسمٌ فعالٌ في أداء وظيفته، لكن الأجسام الأخرى المؤلفة لكيان التنظيم أو كيان "دولته" ليست كذلك. ويمكن تلخيص دور التنظيم فيها بالشرطيّ الذي يحرس الإدارات أو التاجر المتنفذ الذي يستفيد منها.

"نحن دولة"؛ هكذا تفهم الطبقة العليا من عناصر التنظيم نفسها، وبهذا سوّغت حربها على الآخرين وطالبتهم بالخضوع لسلطانها. غير أن هذا الفهم لم يستدعِ ما يقتضيه تعريف الدولة من مسؤوليةٍ، ثم ما توجبه هذه المسؤولية من وظائف. ففي تجربة حكم التنظيم لمحافظة دير الزور، من خلال الأشهر القليلة الماضية، تبرز ملاحظاتٌ عدّةٌ تبدّد الهالة التي أحاط بها عناصر التنظيم أنفسهم، وأحاطها بهم أيضاً متسرّعون من كتاب التقارير الصحفية، مأخوذين بتشغيل فرنٍ هنا وتركيب محوّلة كهرباءٍ هناك. يعاني التنظيم في مسألة الدولة وإدارتها من عوائق ذاتيةٍ وأخرى ظرفية، ستحبس أداءه العام في مستوىً منخفضٍ جداً، يكاد لا يتفوّق على أداء مجلسٍ محليٍّ نشطٍ في نوع الأعمال ودرجة إتقانها، رغم افتقار المجالس المحلية –في تجربة إدارتها للمناطق المحرّرة- إلى السلطة التي يتمتع بها التنظيم وإلى الموارد الكبيرة التي تصبّ في بيت ماله. وأخذ السكان في مدن دير الزور وبلداتها بالمقارنة بين مرحلتين. وبدأوا كذلك بتلمّس الحقيقة، أو التأكد منها، بأن حكامهم الجدد ليسوا أكثر من شبّانٍ متحمّسين قليلي الخبرة بكلّ شيءٍ إلا إطلاق النار. وعندما يعدّد المعتدلون من مؤيّدي التنظيم المنافع العامة التي حققها يتوقفون عند فرض الأمن وملاحقة ناهبي الممتلكات العامة، ويطلبون التأني والصبر، "فالأخوة" يبذلون ما في وسعهم. وقد يكون الأمر كذلك، لكن بذل ما في الوسع لا يكفي وحده للنهوض بأعباء دولة، من دون بنيةٍ تشابه بنية الدول الحقّة.

تجارب في الزراعة والخدمات

لم يلحظ السكان في معظم المناطق تغيراتٍ إيجابيةً في مستوى الخدّمات المقدمة لهم. وبقيت المشاكل ذاتها من دون حلولٍ جذرية، مشاكل تتصدّى لها في واقع الأمر الكوادر المحلية التي قامت بذلك خلال المراحل السابقة بعد التحرير. فالفنيون والعمال المحليون في قطاعات مياه الشرب والكهرباء والهاتف الأرضيّ هم من يشغّل هذه الخدمات. واقتصر دور التنظيم في عملية التشغيل تلك على تقديم بعض قطع الغيار والأجهزة من مستودعات الشركات الحكومية، التي تناوبت كتائب الجيش الحرّ وجبهة النصرة في السيطرة عليها، قبل أن "يغنمها" التنظيم من بين ما وقع تحت سيطرته، إضافةً إلى تقديم بعض المكافآت المالية غير المنتظمة للعاملين، واشتراط "البيعة" عليهم مقابل رواتب شهريةٍ معقولة. فعملت مكاتب خدمات المسلمين -الجسم المختصّ من التنظيم بالإشراف على الخدمات- بما هو موجودٌ من أدواتٍ ومعدّاتٍ وتجهيزاتٍ تعود بمعظمها إلى القطاع العام السابق، وبأذرع الفنيين المحليين، على حلّ بعض المشكلات مؤقتاً وبشكلٍ جزئيٍّ في غالب الأحوال. فلم ينقص، على سبيل المثال، عدد ساعات انقطاع التيار الكهربائيّ. ولم تلبّ كذلك احتياجات محطات تصفية المياه، وخاصةً من المواد غير المتوافرة في قائمة المسروقات المستعادة. وفي الموضوع الزراعيّ، وهو العنصر بالغ الأهمية في اقتصاد المحافظة، عجزت "الدولة" عن تأمين البذار والأسمدة للفلاحين، وتركز عمل التنظيم على صيانة بعض مشاريع الريّ، وبأذرع الفنيين المحليين كذلك وبتخطيطٍ منهم، وباستخدام الآليات والمعدّات التي أجبر التنظيم اللصوص على إعادتها. ولا يمكن تعميم هذا النجاح الجزئيّ في موضوع الزراعة على جميع القواطع –تسميةٌ إداريةٌ للمناطق في قاموس التنظيم- بل يُسجّل تفاوتٌ كبيرٌ بحسب تعاون كل أميرٍ زراعيٍّ وحماسته من قاطعٍ إلى آخر، وبحسب ثقافة السكان ودرجة اهتمامهم بالزراعة وقدرتهم على إقناع مسؤوليهم الجدد. وحول تأمين الخبز يسلك التنظيم سلوك المستثمر أكثر منه سلوك المسؤول الذي يقدّم الدعم لرغيف الخبز ليخفض من أسعاره، إذ استولى التنظيم على ما تبقى من مخزون الحبوب في الصوامع، وعلى جميع المطاحن المدارَة سابقاً من قبل المجالس المحلية، وعلى الأفران العامة، ليشغلها لصالحه دون أية تخفيضاتٍ في الأسعار، بل محققاً بهذا هامش ربحٍ شهريٍّ كبير!