حياة التقشف في إدلب

من إدلب - خاص عين المدينة

شتاء كالح يمر على إدلب واصلت فيه درجات الحرارة الانخفاض والأسعار الارتفاع، بينما يجاهد سكان المحافظة للعيش ضمن المتاح الذي يشمل الإنارة في الليالي الطويلة، والطعام بحدوده الدنيا، واللباس المعاد استعماله، والدفء على مواقد الطبخ، بحيث أصبحت إجراءات التقشف سمة عامة لحياة الجميع، وما كان يسعى البعض لإخفائه تجنياً للحرج، يدفعه الكثيرون إلى حدوده القصوى من أجل الاستمرار.

 تجبر الظروف المعيشية الصعبة آلاف السكان بمحافظة إدلب على التفكير ملياً بطرق أصعب للعيش تتخذ من سياسة التقشف عنواناً عريضاً. وكما اعتاد معظم الأهالي الذين عانوا من العيش في مناطقهم المحاصرة على العودة إلى أساليب العيش القديمة لافتقارهم لأبسط المواد، تتكرر التجربة في إدلب مع توفر كل المستلزمات ولكن مع ارتفاع أسعارها، على حين تندر فرص العمل وتنخفض الأجور.

 العتمة أو الإضاءة المنخفضة صارت تحتضن الجزء المسائي من حياة الأهالي في إدلب لاسيما بالشتاء، ويمكن أن يحكى عن ليل إدلب باختصار أن الحياة فيه بيد شمس النهار، "إذا كان في شحن سهرنا، وإذا ما في نمنا بكير".

يقول أبو رياض مهجر من داريا ويقيم بريف إدلب، أن ثلاثة أيام من انحجاب أشعة الشمس واستمرار هطول الأمطار كانت كفيلة أن تجهد مدخرة الشحن التي يستخدمها لتوليد الطاقة الكهربائية، والتي تعتمد على الألواح الشمسية لشحنها وجهاز رافع الجهد لتحويل طاقتها إلى كهرباء.

 يروي أبو رياض أنه عانى في تلك الليلة حين لم يكن يتوفر لديه أي مصدر للطاقة وبدى أنه سيقضي ليلته مظلمة، "عادت بي الذاكرة إلى الأيام الطويلة التي قضيناها في الحصار.. وهي شعلة الزيت" يقول مشيراً بيده ليوحي بتنفيذ العمل.

 أعد أبو رياض وعاءً حديدياً وضع فيه قطعة قماش وسكب عليها قليلاً من زيت الزيتون، بعد ثواني قليلة أضاءت الشعلة أركان الغرفة، وتحلقت العائلة حولها قليلاً ثم وضعتها قريباً من النافذة "لم نعد نحتمل الدخان الذي تصدره".

 ويردف "ليس باستطاعتي أن أستبدل مدخرة الشحن القديمة بواحدة جديدة، كما أنني لا زلت أقيم ببلدة لم تصل إليها الكهرباء التركية، وامتلاك مولدة تعمل على المحروقات هو أمر مكلف جداً".

 تحاول العوائل التأقلم مع الوضع المعيشي الجديد، فالتفكير بتوفير بعض الليرات والتخلي عن بعض الحاجات المعيشية (كشراء الألبسة ونوعية الطعام وخروج النزهات..) لم يعد صفةً للشح والبخل، بل بات حاجة ملحة. وقيل قديماً "خبي قرشك الأبيض ليومك الأسود" إلا أن هذه المقولة لم تعد منطقية، "ما في أسود من هيك أيام" يردد الأهالي، ولم يعد توفير النفقات خياراً لادخار النقود إنما لاستمرار الحصول على ضروريات العيش.

 تروي السيدة أم أدم من سكان بلدة دركوش غربي إدلب، التغيرات الجديدة التي اتفقت عليها مع زوجها والذي يعمل كسائق في إحدى المنظمات الإنسانية بعد موجات الغلاء الأخيرة.

 ستقاطع العائلة شراء المأكولات الجاهزة، والتنزه إلى المطاعم. "بثمن الفاتورة التي سندفعها يمكننا إعداد طبخة ليومين أو ثلاثة" تقول أم أدم، والتي قررت أنها لن تصارح أطفالها بهذه القرارات بل ستتركها للظروف التي ستتخذها أعذاراً لتبرير طريقة العيش الجديدة.

 تتألف عائلة أم أدم من ثلاثة أطفال تتراوح أعمارهم بين 5 أشهر إلى 6 سنوات، ولم تستطع السيدة الموازنة بين دخل زوجها ومصاريف المنزل لاسيما شراء الملابس التي باتت العائلة تعد شراءها من الكماليات.

 قبل أعوام عدة كانت أم أدم تأنف من أن تجلب لأطفالها الملابس التي صارت ضيقة على أبناء أختها، على حين اتفقت مؤخراً مع جاراتها على تبادل ملابس الأطفال القديمة "بالبداية كان أمراً محرجاً إلا أن جاراتي أحببن الفكرة" قالت السيدة.

 ويدفع لهيب الغلاء وتراجع فرص العمل الأهالي للبحث عن دائماً عن الأوفر، ومع ارتفاع متطلبات العيش الرئيسية كالمحروقات ومواد التموين الأساسية، يحل فصل الشتاء ضيفاً ثقيلاً تتضاعف معه المصاريف لاسيما التدفئة، "لا يمكن أن نشعل المدفأة للتدفئة فقط" يقول حسام 26 عاماً مهجر من ريف حماة ويقيم بإحدى مخيمات الشمال.

 تستخدم عائلة حسام مدفأة كبيرة الحجم، وجعلت فتحت مدخنتها واسعة جداً لتصبح المدفأة جاهزة لابتلاع مختلف الأشياء القابلة للاشتعال (أحذية قديمة، ملابس مهترئة، وإطارات سيارات)، وبذلك تصبح مصدر الطاقة الوحيد في المنزل. يقول حسام "على المدفأة نعد الطبخ، ونضع وعاء تسخين المياه للغسيل والاستحمام، ونجفف الملابس".

كما اتخذت عائلة حسام المكونة من 8 أشخاص، نظاماً معيناً للطعام يقتصر على وجبتين فقط وكل يومين وجبة للتحلية، كما يستثنون المأكولات المقلية، والتي تم استبدالها بالمأكولات المسلوقة لارتفاع أسعار الزيوت.

 يعمل حسام مع والده وأخيه الأصغر ذي الخمسة عشر عاماً، بأعمال مختلفة كمواسم الحصاد وجني الزيتون ورفع الأحجار وغيرها، ويتقاضون أجورهم باليومية.

 لا يتجاوز ما يجمعه الثلاثة شهرياً في أحسن الأحوال أكثر من 900 ليرة تركية فقط، "ربما توحي الحالة التي نعيشها بالبخل، ولكن نحن مضطرون إلى التفكير بهذه الطريقة لتأمين طعامنا حتى أخر الشهر" يقول حسام متحسراً.

على حين لم تعد السيدة هيام 36 عاماً وهي معلمة تعمل في مدرسة ببلدة أطمة شمالي إدلب، تشعر بالحرج أثناء الحديث مع زميلاتها المعلمات حول إيجاد طرائق جديدة لتوفير مصاريف البيت "معظم المعلمات في المدرسة يتكلمن عن عناوين المحلات الأرخص، كما يتحدثن عن طعامهن المتواضع، والطبخات التي يستغنين بها عن استخدام اللحم" توضح السيدة.

 وتوضح هيام أنها باتت تتبع طريقة للإسراع بطهو الطعام بهدف توفير جرة الغاز، وتقول "تعلمت الطريقة من إحدى قنوات اليوتيوب، وهي طهو معظم الأطعمة باستخدام طنجرة الضغط".

 تتحايل بعض ربات البيوت بكل طرق التأقلم مع معيشة التقشف الجديدة، ويحاولن عدم إظهارها كأمر طارئ. وفي الآونة الأخيرة أصبحت محلات بيع الألبسة المستعملة في إدلب أكثر رواجاً وإقبالاً، حيث تعتبر أسعار بعض أصنافها مقبولة مقارنةً بأسعار الملابس الجديدة.

تحاول أم محمد مهجرة من ريف دمشق وتقيم ببلدة الفوعة، أن تخفي عن أطفالها تعبير ملابس "مستعملة" وتستبدلها بلفظ "الأوروبية". وتوضح أم محمد أنها باتت تشتري معظم ملابس عائلتها من أسواق الملابس المستعملة، "عندما أشتري الملابس أذهب لوحدي، ثم أغسلهم جيداً، وأخيط المهترئ منها، وأقدمها لأطفالي بأكياس جديدة".

 يعمل زوج أم محمد في ورشة للتمديدات الصحية بأجر غير ثابت، وهو ما يدفع العائلة لاختصار النفقات والاقتصار على الضروريات كالطعام والتدفئة.

 تضحك السيدة وتتأمل ملياً وهي تحاول أن تتذكر المرة الأخيرة التي دخلت فيه محل لبيع المكياج أو فساتين السهرة وتقول "الدخول إلى هذه الأماكن تحتاج إلى ميزانية بحالها".