العرف المجتمعي يسلب النساء حق الميراث في إدلب

وجدت ريمة نفسها بين خيارين؛ الحصول على حصتها من إرث والدها وتحسين أحوالها المادية، أو التخلي عنها مقابل المحافظة على علاقة الود مع أخوتها الذكور الذين رفضوا الاعتراف بحقها، وبقائها بانتظار هباتهم وصدقاتهم المزاجية التي تجود مرة وتنقطع مرات.

ريمة البكور (45 عاماً) من بلدة حربنوش في ريف إدلب الشمالي، هي إحدى النساء اللواتي يواجهن مشكلة الحرمان من الميراث الشائعة في إدلب، نتيجة الفلتان الأمني، وسيادة العرف المجتمعي الذي يكبل النساء، ويرفض خروج ملكية الأرض من نطاق العائلة الواحدة، ويمنع المرأة من رفع صوتها للمطالبة بحقوقها، أو التقدم بشكوى قضائية ضد أحد أفراد أسرتها، في انتهاك واضح لحقوقها وتحكم بحياتها.

العرف المجتمعي

تضطر نساء للتنازل عن حقهن الشرعي في الأموال أو الأراضي حتى لا يوصمن بالعار، وإذا طالبت المرأة بحقها فإن ذلك يعد خروجاً عن النمط الاجتماعي السائد، وتستحق القطيعة من قبل الأهل، وقد تتعرض للضرب والإهانة.

ريمة أم لأربعة أبناء، تتحدث لـ“عين المدينة“ عن معاناتها بالقول: "ربيت أخوتي وتعبت كثيراً عليهم باعتباري البنت الكبرى، وبعد أن كبروا كافؤوني بعدم الاعتراف بحصتي من ميراث أبي". وتوضح أن لها أختين ميسورتي الحال، وأنها لطالما سكتت هي عن حقها، ولكن موت زوجها منذ ثلاث سنوات، وعيش حالة الفقر وضيق الحال جعلها تطالب بحقها، لتحسين أحوالها المعيشية.

وتبين البكور أنها لم تفكر بتقديم شكوى للقضاء نظراً لعدم رغبتها بوضعها في دائرة "العيب المجتمعي"، وخسارة العلاقة مع أخوتها، وخاصة بعد وفاة زوجها، "لم يتبق لي غيرهم عزوة في هذه الحياة".

تشير ريمة إلى أنها تشعر بالغبن والظلم، وأكثر ما يحزنها هو تواطؤ والدتها ضدها، بحجة أن حصولها على حصتها من الميراث هو هدر لتعب أخوتها وجهدهم طيلة حياتهم، ورغبتها بنقل جميع الأملاك لأبنائها الذكور إمعاناً منها في حرمان بناتها.

تحايل على النساء

تتعدد أساليب حرمان النساء من إرثهن الشرعي، فبعض العائلات يحرمون بناتهم من الزواج إلا في حال التنازل عن حقهن في الميراث، وقد تحرم النساء في إدلب من إرثهن طواعية بسبب العادات والتقاليد المستبدة، أو ممارسة الإكراه المعنوي من العائلة التي لا تسمح بأن "تذهب أملاكها لشخص غريب"، رغم أن القانون السوري يعتبر أي اتفاق يتضمن التحايل على أحكام الميراث خلال توزيع التركة ووفاء الديون -سواء كان بيعاً أو هبة أو وصية- باطلاً، عملاً بالقاعدة التي تنص على أنه (لا وصية لوارث)، إذ لا يجوز للمورث -سواء في حياته أو بوصية بعد وفاته- إسقاط حق الميراث أو التنازل عنه لغير الورثة الحقيقيين.

أم يوسف (39 عاماً) من ريف مدينة سراقب، تفاجأت بعد وفاة زوجها بتحايل أولاده من زوجته الأولى على القانون من خلال إبراز عقد ينص على أن والدهم تنازل عن جميع أملاكه "بيعاً وشراء" لهم، وبذلك يكون قد حرم زوجته الثانية من الإرث، وعن ذلك تتحدث أم يوسف: "زوجي يمتلك عدداً من الأراضي والعقارات، وليس من العدل أن أحرم مع ولدي من إرث زوجي". وتضيف: "أنا متأكدة بأن العقد مزور، لأن علاقتي مع زوجي كانت جيدة، وعملت على خدمته طوال فترة مرضه، ومات وهو راض عني، (!) فلماذا يحرمني مع ولدي من تركته!".

وتؤكد أم يوسف أن التحايل على القانون بات ممكناً مقابل دفع الرشاوى، أو بمجرد تزوير البصمة لدى مكاتب التزوير المنتشرة في إدلب.

أما عيوش البدوي (55 عاماً) من ريف معرة النعمان الشرقي، فرغم مرور السنوات لا تزال ناقمة على أخوتها الذكور الذين استغلوا أميتها من أجل تبصيمها على ورقة تنازل عن حصتها من الميراث لصالحهم، وعن ذلك تقول: "لا أجيد القراءة والكتابة، وقد أقنعني أحد أخوتي أن هذه الورقة هي وثيقة حصر إرث لينال كل منا نصيبه، فوثقت به وقمت بالبصم عليها، لأكتشف فيما بعد أنني تنازلت عن حصتي لهم، واليوم أعيش حياة العوز، بينما يعيشون مع زوجاتهم حياة مرفهة".

دعاوى قضائية

يصل جزء بسيط من قضايا الحرمان من الميراث إلى المحاكم الشرعية المنتشرة في الشمال السوري، من قبل نساء رفضن السكوت عن حقهن في الإرث، وقررن المواجهة للحصول عليه، علماً أن القانون المعمول به هو القانون السوري المستمد من الشريعة الإسلامية.

عامرة (35 عاماً، رفضت الكشف عن اسمها الكامل) من قرية كفريحمول في ريف إدلب، تتحدث عن معاناتها بالقول: "بعد موت والدي انتفع أخوتي بأملاكه لمدة تجاوزت ثلاث سنوات، وعندما طالبت بالاتفاق مع أختي بحقوقنا، رفضوا إعطاءنا، وبعد مباحثات وتشاورات قرروا منحنا مبلغاً رمزياً مقابل التخلي عن حصتنا بالمنزل والأراضي الزراعية لهم، بذريعة عدم رغبتهم ببيع الأملاك، وتطبيق وصية والدي بالمحافظة على ما تركه لهم وعدم خسارته وتبديده".

تؤكد عامرة أن الخيار الأخير كان التقدم بشكوى ضدهم في إحدى المحاكم الشرعية، حيث قامت بتوكيل محام، لكنها لا تزال منذ ثلاث سنوات ترتاد المحكمة دون الحصول على حقها.

تشير عامرة إلى أنها حضرت العديد من الجلسات القضائية دون البت بالحكم حتى اليوم، بحجج مختلفة منها تشعب الورثة ووفاة بعضهم، وعدم موافقة البعض على البيع، وغياب البعض الآخر خارج البلد وصعوبة التبليغ، إضافة لطبيعة العقارات المتنازع عليها.

المحامي محمود حمام يتحدث لـ“عين المدينة“ عن حرمان المرأة من الميراث بقوله: "(سببه) انتشار الجهل والابتعاد عن روح الشرع والقانون، وتحكم العرف المجتمعي الذي يستوجب بقاء الملكية ضمن نطاق الأسرة الواحدة، وعدم تقسيمها، وخاصة الأراضي الزراعية في المجتمعات الريفية".

ويشير إلى أن الملكية في الأرياف محصورة بالذكور بقوة العرف والتقاليد، وليس بقوة الشرع والقانون، ما يساهم في وجود نساء فقيرات غير متمكنات اقتصادياً، وغير قادرات على الوصول إلى أملاكهن والتحكم بها والسيطرة عليها.

ويبين أن القوانين واضحة وتقر بحق النساء في الميراث، وكل ما يلزم لحصول المرأة على حقها في المحاكم هو وثيقة "حصر إرث"، تبين درجة قرابة كل من الورثة للمتوفى، ثم تحسب المحكمة الحصص الإرثية بحسب نوع الملك، فإن كان "أميري"، فتكون حصة الذكر مساوية لحصة الأنثى تماماً، أما إذا كان "شرعي" فيكون "للذكر مثل حظ الأنثيين".

بين أروقة المحاكم والخوف من الأعراف المجتمعية تضيع حقوق المرأة وكرامتها، ويتم استغلال ضعفها وعاطفتها للإمعان في ظلمها من أقرب الناس إليها، وحرمانها من حقها في الميراث، وتضطر الكثيرات للصمت خوفاً من تأثر علاقاتها الاجتماعية بأسرتها، أو ضعف وعيها بحقها الذي كفله لها الشرع والقانون.