الأمراض النفسية تفتك بالأطفال شمال غربي سوريا

War on Children ©Save the Children

يعاني آلاف الأطفال شمال غرب سوريا من اضطرابات نفسية متعددة جراء ما عاشوه ويعيشونه من ذعر وتهجير وحرمان ودماء على مدار عشر سنوات متواصلة، ولم يعد يقتصر تأثير الحرب على احتياجات الأطفال الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن فحسب، بل تعدى ذلك ليعرض صحتهم النفسية والعقلية لخطر بالغ يهدد حياتهم ومستقبلهم.

يعاني الطفل محمد العبيد (7 سنوات) من اضطرابات نفسية حادة، جعلته ملازماً لأمه طوال الوقت بحثاً عن الأمان، بعد الصدمات التي تعرض لها خلال سنوات الحرب الدامية.

تقول والدته بحزن: "تنتابه حالات من الهلع الهيستيري كلما مرت طائرة حربية. أصيب محمد بهذه الحالة منذ أن استهدف الطيران منزلنا في مدينة خان شيخون قبل نزوحنا الأخير منها إلى المخيمات الحدودية، وعلى الرغم من أننا نجونا جميعا بأعجوبة ذلك اليوم، إلا أن صوت تلك الصواريخ غرس في ذاكرته صور الدنار واضطرابات نفسية من الصعب علاجها".

وتضيف الأم بأن محمد منذ تلك الحادثة بات يعاني أيضاً من الاكتئاب والتبول اللاإرادي، ويرفض اللعب مع أقرانه.

حالة محمد العبيد ليست إلا واحدة من بين آلاف حالات الأطفال الذين تجرعوا مرارة الحرب، وحرموا من عيش طفولتهم الطبيعية. مشاهد الهلع والقتل والدمار كانت وما زالت تحيط بهم من كل جانب مع استهدافات النظام اليومية المتكررة للمدنيين في المناطق المحررة وبشتى أنواع الأسلحة.

سامي طفل صغير آخر (4 أعوام) نال من القصف نصيبه منذ نعومة أظافره، فيحتفظ في مخيلته بمشاهد مروعة، كان أبلغها في نفسه قبل أسابيع -حسب ما يقول والده- عندما شهد مقتل والدته وجرح أخويه أمام عينيه إثر استهداف منزلهم في جبل الزاوية.

أصيب سامي بداء السكري وبحول في عينيه. يقول والده بحرقة: "أقف عاجزاً مكتوف اليدين. منذ تلك الحادثة وهو يبكي بكاء شديداً ويردد عبارة (أريد أمي)، ويعاني من صعوبة في النوم ومن الكوابيس".

"جميع أصدقائي يركضون ويلعبون إلا أنا". بهذه الكلمات والدموع تسيل على وجنتيه، اختصر الطفل باسل قبلاوي أحلامه وهو يواجه مرارة الإعاقة التي سرقت خطواته وهو ما زال في عمر الزهور.

باسل (10 أعوام) نزح مع عائلته من ريف إدلب الجنوبي إلى مخيم عشوائي على الحدود السورية التركية، وقد تعرض لبتر قدمه جراء شظية قذيفة سقطت بجانبه أثناء عودته من المدرسة منذ قرابة السنتين. وعن حالته تتحدث والدته قائلة: "لم تفلح جميع محاولاتنا بإقناع باسل للعودة إلى صفوف المدرسة بعد تلك الحادثة، بات يفضل قضاء معظم وقته وحيداً داخل الخيمة"

وكثيراً ما يتم اكتشاف أمراض نفسية عديدة لدى الأطفال داخل صفوف المدرسة، تظهر في سلوكياتهم وألعابهم ورسوماتهم، وهو ما أكدته المعلمة نجلاء الأبرش (30 عاماً من أريحا) التي اعتبرت بأن معظم تلاميذها محطمين نفسياً وفي حالة إرهاق وخمول، فعندما طلبت منهم الرسم كانت معظم رسوماتهم تدل على معاناتهم من الحرب التي يعيشونها، مثل الدبابات والطائرات والخيام.

ولفتت المعلمة إلى ضرورة تقديم الدعم النفسي اللازم للأطفال، سواء في المدارس أو في المخيمات، سعياً لإخراج الطفل من حالته النفسية السيئة وواقع الحرب الذي فرض عليه.

ويشهد الشمال السوري ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات الانتحار، وخاصة ضمن الأطفال والمراهقين الذين هم أكثر الفئات تأثراً بكوارث الحرب، يلجأون إليه للتعبير عن اعتراضهم على الواقع الذي يعيشونه. وكان آخر حادثة شهدتها المنطقة انتحار محمد سليم العنكوجي (17 عاماً من مدينة معرة النعمان) الذي أنهى حياته شنقاً داخل خيمته في مخيمات "مشهد روحين" في ريف إدلب الشمالي.

وأرجعت الباحثة الإجتماعية هدى البم (45 عاماً من مدينة إدلب) سبب تصاعد حوادث الانتحار تلك لعدة عوامل، أهمها غياب التعليم وقلة الوعي الأسري، وفقدان الأبوين أو أحدهما، وغياب الاستقرار النفسي الذي جعل الطفل أو المراهق ضحية نفسه دون أن يشعر،  فضلاً عن العامل الاقتصادي وغياب الاستقرار.

كما أشارت الباحثة إلى مشاكل أخرى خلفتها وسائل التواصل الاجتماعي التي تعكس حياة الأطفال والمراهقين في أماكن أخرى، ومظاهر الاستقرار العائلي والمعيشي الذي يتمتعون به، الأمر الذي يعزز لدى أطفال ومراهقي الحرب نقمتهم على الحياة التي يعيشونها داخل الخيمة.

ورأى المختص في الإرشاد والدعم النفسي الأستاذ علي الحريري (30 عاماً من الدانا) أن الأطفال الذين عايشوا الحرب يعانون من الاضطرابات السلوكية، وهي نتيجة حتمية لمشاعر الإحباط واليأس والتمرد والعنف التي قد تتولد في ذوات الأطفال نتيجة ما تعرضوا إليه من ألم الفقد والقهر، ومن انعكاس الانتهاكات على أفكارهم ومشاعرهم وسلوكهم، حسب الحريري الذي أشار إلى أن الحرب قد تجعل من عالم الطفل أكثر تعقيداً، على اعتبار أنها تقف (من منظور الطفل) وراء سلبه لحقوقه الأساسية كالتعليم والإيواء، وسلخه من بيئته الطبيعية وحرمانه من الإحساس بالأمان، "ما يعني بالضرورة أن الحرب قد تدفعه إلى حالة من الانهيار نتيجة حالة الرعب التي تهيمن على ذاكرته".

وهناك درجات من الدعم النفسي الذي يحتاجه الأطفال ضحايا الحروب حسب ما ذكر الحريري، ولكن لا بد أن يكون بالتوازي بين أطراف من عدة فرق من الأطباء المتخصصين والاختصاصيين النفسيين والأسرة التي تعي طبيعة الحالة النفسية للطفل، فتحفزه على الرسم  واللعب والتعبير عن مشاعره وما مر به.

يذكر أن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) لفتت في بيان أصدرته آذار 2021 أن 90 بالمئة من الأطفال في سوريا يحتاجون إلى مساعدة إنسانية.