لاجئو الجولاني المحتملون ما زالوا تحت الاحتساب

الصحافي الأميركي سميث وأبو محمد الجولاني

رغم كل الانتقادات وردود الفعل الرافضة لتدخلات "هيئة تحرير الشام" عبر "الاحتساب"، في التفاصيل الشخصية لحيوات سكان المناطق التي تسيطر عليها، ورغم كل ما يحاول الجولاني الإيحاء به من خلع جلده الإيديولوجي، فإن الواقع يشير إلى استمرار "الهيئة" بفرض رؤيتها بالقوة على المدنيين من خلال صداماتها اليومية معهم.

 يحاول الجولاني قائد هيئة تحرير الشام برسائله الموجهة إلى الغرب خاصة أمريكا، اكتساب شرعية بقائه من التمايز عن "التهديد الأمني والاقتصادي" المحتمل للغرب، ومن كونه "رجل المرحلة" الذي يسيطر على "منطقة تضم ملايين النازحين السوريين الذين قد يصبحون لاجئين"، دون النظر إلى هؤلاء الأخيرين سوى كـ"رعايا" يجب عليهم الرضوخ حتى في أدق تفاصيل حياتهم، أو إخضاعهم عبر الأجهزة المسلطة على رقابهم.

لم يتوقع الشاب لؤي (٢٥عاماً) أن تستوقفه حواجز إدلب الأمنية بحجة تشغيل الأغاني داخل سيارته، ويتم احتجازه وحبسه وتغريمه قبل أن يفرج عنه. مر لؤي بلحظات وصفها "بالصعبة" حين أحاطته عناصر الهيئة، واقتيد لمركز الأمن الجنائي في مدينة إدلب وكأنه "مجرم أو إرهابي"؛ يقول إنه تعرض في مقرات الهيئة "لإهانات لفظية وانتقادات لاذعة وكأنني خرجت عن ملة الإسلام بسماع الموسيقا، فهي من منظور الهيئة من المنكرات والفسق والفجور وعدم مبالاة بالوضع المأساوي الراهن ولا بدماء الشهداء المجاهدين“.. هكذا وصف لؤي مشهد لومه من قبل عناصر الهيئة.

لم تكن حادثة لؤي الوحيدة، وإنما تعددت الحالات المشابهة لتدخلات هيئة تحرير الشام بالحريات الشخصية بحجة "الشرع" و"التعاليم الدينية" من خلال تخصيص جهاز لتلك الأمور أطلقت عليه عدة أسماء "الحسبة، سواعد الخير" وآخرها "مركز الفلاح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".

ظهر نظام الاحتساب في إدلب منذ حزيران ٢٠١٧ من خلال أفراد مهمتهم إعطاء المواعظ والأحكام، ثم بدأ يأخذ شكله المنظم مع تأسيس جهاز "سواعد الخير"، الذي بدأ عمله على شكل جماعة دعوية مهمتها النصح والإرشاد، لتتحول مع الزمن إلى ذراع أمني للهيئة، وبدأ يتدخل بالحريات العامة للمدنيين ويفرض عليهم قوانين تخص لباسهم وسلوكهم، كالعمل على منع الاختلاط بين الجنسين، ومنع ما أسموه بـ"المنكرات والمجاهرة بها" كتدخين السجائر والأرجيلة وسماع الأغاني، واتخاذ إجراءات مشددة بحق المخالفين، بعد أن منحت عناصرها صلاحيات واسعة وحق توجيه التهم والاعتقال والمحاسبة.

ويتألف جهاز الحسبة في إدلب من عدة مكاتب أهمها الدوريات النسائية، المحتسبون، القوة التنفيذية، مكتب القضاء، إضافة إلى مكاتب أخرى كمكتب الشكاوى والمتابعة.

 لم يستطع حسام (٢٢عاماً) أن يخفي ابتسامته الساخرة حين تذكر كيف أمضى ثلاثة أشهر في سجون الهيئة على خلفية استيقافه من قبل جهاز الحسبة في مدينة إدلب بسبب حلاقة شعره الحديثة، وعن تفاصيل الحادثة يروي أنه كان على دراجته النارية في طريقه لعمله حين قطعت سيارة الحسبة الطريق، وأوقفوه مشهرين السلاح بوجهه، "فوجئت بما حصل وانتابني الخوف، أردت الهروب، لكنني لم أستطع، فما كان مني إلا الانصياع لأوامرهم والذهاب معهم". ويتابع "راحت الأفكار السيئة تأخذني يميناً ويساراً دون الوصول إلى معرفة السبب الذي دفع بالهيئة لاعتقالي بتلك الطريقة الهمجية".

في فرع الهيئة الأمني، وقبل توجيه أية تهمة، سُجن حسام في المنفردة لأكثر من ثلاثة أيام "وكأنها الدهر"، إذ لم يعلم ما الذي فعله ليلقى في السجن، ورغم أسئلته المتكررة واستفساراته لم يسعفوه بأي جواب، إلى أن تم استدعاؤه للتحقيق وهناك باغته المحقق "تتقلد بعادات الغربيين! ألا تخجل من شكلك هذا؟لم يخطر ببال حسام في تلك اللحظات إلا مرآة يعرف منها مشكلة شكله، كما يتذكر، عندما شده المحقق من شعره "ما الذي تجده جميلاً في هذه الحلاقة!"، ولم يكتف بسجن حسام، بل أجبره على إخباره عن اسم الحلاق، الذي قضى معه مدة ثلاثة أشهر في السجن.

رغم فشل جهاز الحسبة وحله منذ أكثر من سنتين نتيجة زيادة تجاوزات أفراده ضد الناس، وظهور شبهات فساد حوله، فقد عادت الهيئة لتفعيله مرة أخرى تحت مسمى "مركز الفلاح"، الذي تحرص من خلاله -في ما يبدو- على تعميق تغلغلها داخل المجتمع الذي تسيطر عليه عسكرياً، ويمنحها التناغم مع التوجهات الجهادية وضبط تحركات المجتمع بالانصياع لرؤيتها.

 ولتعامل عناصر "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" حكاية أخرى مع عشرات النسوة من خلال ضبط حياتهن وملاحقة لباسهن وحجابهن وأماكن تواجدهن بحجة "التبرج والاختلاط".

 تروي جميلة ( ٣٥ عاماً) أنها أثناء توجهها من بيتها في الدانا إلى عملها في سلقين أوقفها حاجز للهيئة، واقتادها عناصره مع سائق الحافلة التي تقلها إلى أحد مركزها الأمنية بحجة عدم وجود قرابة بينها وبين السائق، إذ يمنع تواجد النساء في أماكن تواجد الرجال دون محرم وفق قوانين الهيئة.

"لا يمكن أن أنسى في حياتي كلها الموقف المهين الذي وضعوني فيه موقع المتهمين أخلاقياً، بعد تعرضنا للكثير من الشتم والتوبيخ وكأننا كنا نمارس علاقة حميمية داخل الحافلة" تقول جميلة بسخرية، وتتابع "تسببوا لي بفضيحة في مجتمعي المحيط، واضطر زوجي إلى كتابة تعهد بمنعي من الخروج إلا برفقته أو رفقة أحد أقربائي المحرمين حصرياً"، وتنتقد جميلة تصرفات الهيئة بشدة، وتلفت إلى أنه ينبغي عليها بدلاً من زيادة التضييق على المدنيين المضغوطين أصلاً نتيجة عوامل عدة أهمها الحرب والنزوح والفقر، أن تلتفت إلى "تحسين أوضاع الناس ومساعدتهم والنظر في تأمين احتياجاتهم بدلاً من زيادة معاناتهم" على حد تعبيرها.