كبار السنّ... من ينصِتُ لدموعهم؟!

حين تجالسهم ستجد نفسك ـ دون أن تشعر ـ تنصت بإمعانٍ لدموعهم، فهي أبلغ من أيّ كلامٍ يقال. إنها شريحةٌ من الشرائح الاجتماعية التي عانت مثل غيرها، ولكن بصمتٍ قد لا تجده إلا عندها.

جامع الفتح.. من مأوىً للخاشعين إلى دارٍ للعجزة

"عين المدينة" حاولت تسليط الضوء على معاناة كبار السن في دير الزور عموماً، وفي الجزء المحتلّ منها بشكلٍ خاصّ، تلك المعاناة التي تجلت في عدّة صورٍ كان آخرها تحول جامع الفتح والغرف الشاغرة فيه إلى ما يشبه مأوى العجزة. التقينا بالسيدة أم محمد، التي تسكن بالقرب من الجامع، والتي استقبلت سؤالنا عن معاناة كبار السن بضحكةٍ ساخرةٍ لا تستلزم من مُجالسها الكثير من الحسّ ليتذوق فيها طعم المرارة.
أشارت بيدها إلى مئذنة جامع الفتح القريب: هل تعرف عدد السيارات التي توقفت هنا لتلقي بسيداتٍ كبيراتٍ في السن أمام بابه؟ في بهو المسجد عدّة غرفٍ تمّ إعدادها ليمتْن فيها بعيداً عن منازلهنّ وأحفادهنّ. كل مدّةٍ تتوقف سيارةٌ وتلقي بإحداهنّ كما تلقي بالنفايات. ظهر هذا في دير الزور بشكلٍ فاقعٍ ومقيتٍ في السنة الأخيرة، مما يدلّ من جهةٍ على تبرّم الأبناء بآبائهم وثقل المسؤولية الملقاة على عاتقهم بسبب وجود رجل مسنٍّ أو امرأةٍ مسنّةٍ في البيت، ومن جهةٍ ثانيةٍ تظهر، وبشكلٍ محزنٍ جداً، المعاناة التي تعانيها هذه الشريحة في ظل الحرب التي يشنها النظام الأسدي على الشعب السوري. الكارثة أن التشديد الأمني في هذه المنطقة يمنع أهل الخير من الاحسان إليهم ومساعدتهم بشكلٍ مباشرٍ خوفاً من المساءلة. قلةٌ هم الذين يجرؤون على الاقتراب منهم، وهذا يزيد من معاناتهم ويحوّل حياتهم إلى حياةٍ لا تليق بالبشر، إذ إن معظمهم يعاني من مشاكل صحيةٍ وأمراضٍ مزمنةٍ تترافق مع ضيق ذات اليد.

ماذا بعد أرذل العمر؟

وحول أوجه المعاناة التي يعيشها كبار السن حدثتنا: في البداية كانت المعاناة معاناةً نفسيةً تفاقمت مع حالة النزوح وبُعد هؤلاء عن منازلهم وأرزاقهم التي تمثل حصيلة كل تعب السنوات الماضية بالنسبة إليهم. هذا البعد والحرمان أدّيا إلى حالات وفاةٍ كثيرةٍ جداً بأمراضٍ مرتبطةٍ بالحالة النفسية. لا توجد احصائيةٌ دقيقةٌ لذلك، ولكن حول كلٍّ منا توجد حالات وفاةٍ بالجلطة أو بأمراض القلب، قتلتهم الحرب دون أن يعتبروا شهداء. المعاناة الثانية تتمثل في نقص الأدوية وانقطاع بعضها بشكلٍ نهائيٍّ، نتيجة توقف العديد من مصانع الأدوية في سوريا. هذه المعضلة واجهت كلّ السوريين، إلا أنها مع كبار السن من ذوي الأمراض المزمنة كانت أشد تأثيراً. فكثيرٌ من أدوية الضغط والسكري والربو اختفت من الأسواق، وكان على المسنّ ايجاد بدائل ملائمةٍ له قد لا تتوافر، وإن توافرت فبأسعارٍ مرتفعةٍ جداً. تضاف إلى ذلك صعوبة الوصول إلى الأطباء لندرتهم في المدينة، في مناطقها المحرّرة والمحتلة، بسبب هجرة العديد منهم إلى خارج دير الزور. كما أن أزمة السكن الحالية التي تعيشها المناطق المحتلة جعلت كبير السن يشعر بثقله على من حوله، أما في المناطق المحرّرة فتواجهه مأساة التنقل في مناطق معرّضة للقذائف والقنص. تكاد تشعر أن بعضهم لا يعبأ بالموت، وقد يجتاز طرقاً خطرةً لا يجتازها الشبان، لا شجاعةً منه بل يأساً من الحياة التي ساقته إلى هذه المهالك، سائلاً نفسه: ماذا بعد ذلك؟
آخر الكلام....

وبينمــــا كنا نهمّ بالمغــادرة

 ـ والنجاة ربما ـ استوقفتنا مجدداً: نزحنا من الحميدية العام الماضي أنا وأبنائي. ولدي أعدم في القصور إعداماً ميدانيّاً. يقولون إن بيتي في الحميدية مدمّر. أولادي يرفضون أخذي إلى هناك، وأنا لا أســــتطيع البقاء هنا. لا أعرف من هو قاتل ولدي بالتحديد، ولكن كلّ عنصـــــر أمـــنٍ أو عسكريٍّ يمرّ
أمامـــي أشعر بأنه قاتله، وأنا مجبرةٌ على تجاهل ذلك.