- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
في دير الزور ينام العائدون من النزوح في الجوامع ولا يعثر للقتلى على قبور
عائدة من بيتها في حي الحميدية وسط مدينة دير الزور، تدفع أم محمد عربة أطفال مهلهلة تحمل فيها سجادة وغطاء متآكلاً وأواني مطبخ وبضع كؤوس معدنية. تقول إن هذا ما وجدته في أول زيارة لبيتها الذي غادرته منذ أكثر من خمس سنوات.
ورغم التعب والإنهاك الظاهر على وجه المرأة الخمسينية إلا أنها تبدو متفائلة بعودة قريبة إلى منزلها، بعد نزوح طويل في حي الجورة. وتحمد الله الذي سلم البيت من القذائف التي ثقبت الجدران وفجرت الواجهة فقط، ولم تدمره كما دمرت بيوتاً أخرى كثيرة في الجوار. «بس يسمحوا لنا نصلحه، بأسبوعين نصلحه ونرجع»، تقول المرأة التي كانت سيدة منزل عامر بأبناء وبنات وأحفاد كثر تفرقوا في مناطق شتى، ولم يبق منهم سوى كبرى بناتها التي منيت بزوجها؛ وتعرف بطفلة ترافقها بأنها حفيدتها الكبرى التي جاءت معها لتزور قبر أبيها المدفون في حديقة، لكنها لم تجد ما يميز القبر عن قبور أخرى كثيرة بلا شواهد في ذات الحديقة. «قريتوا الفاتحة على كل القبور» تقول الطفلة واسعة العينين، والنحيفة بفعل حصار طويل قاسته مع أخوتها وأمها وجدتها وعشرات آلاف آخرين، يمكن تمييزهم بسهولة عن العائدين من دمشق والمحافظات الأخرى تحت سيطرة النظام، بملاحظة الشحوب والهالات السوداء في وجوههم.
يومياً تسمح حواجز قوات النظام على أطراف الأحياء المدمرة لسكانها السابقين، بزيارة لمدة بضع ساعات في النهار لتفقد منازلهم. وتتشابه الشكايات لدى جميع الزائرين بسرقة منازلهم أو تدميرها. يكتفي البعض بالتحسب على ما آلت إليه الأحوال، ويحمل البعض الآخر على داعش، قلة فقط تهمس بالحقيقة الجلية بأن من دمر البلد هو طائرات النظام ومدفعيته وراجمات صواريخه.
«صحيح خسرنا اللي أغلى من الحجر، لكن تظل للبيت اللي نشأ بيه الواحد أو بناه معاني أخرى وتأثير صعب ينوصف» يقول كمال (اسم وهمي) الذي زار بيت أهله مؤخراً ووجده نصفين، واحد سوي بالأرض والآخر قائم بغرفتين عثر فيها على حقيبة أوراق وبيانات شخصية للعائلة، وعثر أيضاً على بضعة كتب دينية ومصحف، حملها في كيس وعاد بها إلى بيت استأجره مؤقتاً بعد عودته من دمشق في حي القصور.
عائدون كرهاً ومشردون
بالقرارات الأخيرة التي أصدرتها وزارات النظام، أجبر عشرات الآلاف من الموظفين النازحين في دمشق والمحافظات الأخرى على العودة، رغم الظروف الكارثية في الأحياء المأهولة من المدينة. «مابي كهربا مابي مي وما بي مكان نقعد بيه» يشكو علي معلم، الموظف في مديرية الزراعة، تردي الأحوال. ويحلف أنه لم يستطع النوم منذ وصوله من دمشق قبل ثلاثة أيام، حيث اضطر للجوء إلى جامع ليقضي الليل فيه، حاله حال مئات آخرين لم يجدوا بيوتاً تؤويهم.
في النهار، وأمام المؤسسات والدوائر الحكومية التي اتخذ بعضها بيوتاً مستأجرة كمقرات، تتجمع حشود الموظفين العائدين لتسجيل أنفسهم بقوائم الملتحقين بالوظيفة. ولا تجدي كثيراً، مع تشدد وزارات النظام والعيون المفتوحة، التوسلات والواسطة لكي يغض المديرون نظرهم عن غياب بعض الموظفين أو الموظفات، حتى في الحالات الاضطرارية. «قلتو له رحمني ولدي كلهم صغار وتركتوهم بالحسكة وجيتو أعمل مباشرة» تروي منى (اسم وهمي) قصتها مع المدير الذي طالبها بالدوام، ورفض إعطاءها إجازة ولو لشهر واحد تعثر خلاله على منزل تعود إليه من نزوحها في الحسكة، «قال شكون أرحمكي ماني الله تا أرحم حدا.. تريدين راتب داومي». نصحها البعض باللجوء إلى فراس العراقية قائد ميليشيا «الدفاع الوطني» فربما يحن قلبه ويرأف بحالها، لكن آخرين حذروها من هذا الشخص بالتحديد، ونصحوها بقصد أمين فرع حزب البعث ساهر الصكر. استجابت للنصيحتين من غير جدوى إذ لم تتمكن من لقاء أي منهما.
في مدينة دير الزور تلاشت الآمال لدى أغلبية السكان، محاصرين سابقاً أو عائدين بأيام قادمة أفضل، وتشاءم الجميع بمظاهر الخراب الهائل الذي حل بالمدينة أو في الجزء الأكبر منها، ولم يصدق، ولم يكن أحد يصدق بالأصل، وعود مسؤولي النظام بتشغيل الخدمات وإعمار المدينة وإعادة الحياة إلى طبيعتها.