في الذكرى السنوية الرابعة لانطلاق الثورة... عن الناشط المتشائم

فيما نشهد في هذه الأيام دخول الثورة عامها الخامس؛ يصعب القول إنّ التفاؤل يعمّ مشاعر السوريين وتطلعاتهم، في الوقت الذي لا تبدو فيه حصيلة الـ1440 يوماً القاسية كفيلةً بتأمين مؤشراتٍ عمليةٍ لنهاية الكارثة التي دفع ويدفع ثمنها الملايين. ولا شك أنّ هذه الحال تدفع الكثيرين منا أيضاً إلى إعلان خيبتهم والانزواء بعيداً عن تفاصيل الثورة اليومية التي طالما رافقتهم منذ آذار العام 2011، هذا إن لم نذكر الذين انصرفوا عن الفعل و"خدمة الثورة" بحثاً عن مصالحهم وما يظنون أنه نجاتهم الفردية، بعد أن أسهموا في قيامها.
يعتمد هؤلاء، في غالب الأحيان، على تبني الرأي القائل بأن الثورة انحرفت عن مسارها، أو أنها تحوّلت إلى حربٍ أهليةٍ، أو حربٍ دوليةٍ بالوكالة على الأراضي السورية، وما يشبه ذلك من المقولات الأخرى الأثقل وزناً وادّعاءً بمعرفة "حقائق" السياسة الإقليمية والعالمية التي يسهم في تعميمها "العارفون" من محللي القنوات وخلاصاتهم الممجوجة التي يكرّرون.
ولسنا هنا بصدد تهوين الأمور بحثاً عن المسلمات التي تستدرّ التفاؤل، لكن إذا كانت الحجة الأساسية للناشطين المعتكفين هي الواقع؛ فإن الواقع ذاته يفرض فهماً مختلفاً لمجريات الثورة ومستقبلها.
ففي مثل هذه الأيام قبل أربع سنواتٍ، لم يخطر في بال أكبر عرّافي الأرض حجم الخذلان الذي سيتعرّض له الشعب السوريّ وثورته من قبل المجتمع الدوليّ، ناهيك عن الصدمة الجدية التي أصابت الكثيرين من الذين أملوا في رؤية وجهٍ حسنٍ للنظام وحلفائه الذين كان أحدهم، حتى زمنٍ ليس ببعيدٍ، ممثلاً للخير في المخيلة العامة، قبل أن يعلن تأييده للقاتل ويطلق ميليشياته الطائفية لتقترف وتعيث بحجة المقاومة. ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ، إذ تعقّد المشهد بحضور"المشروع الإيرانيّ" وقوّاته المتنقلة بين الدول، والموقف الروسيّ، وحماقات السياسة الأمريكية المتتالية، فضلاً عن ظهور داعش وإلى ما هنالك من الأحداث المفاجئة فعلاً. بناءً على ذلك، لا تبدو حصيلة السنوات الأربع التي مضت نتاج أحداثٍ متّسقةٍ استطاع الجميع اكتشافها أو تخيلها، كالمؤامرات التي درجت "تحليلاتنا" السياسية المعتادة على فهمها، بل نتيجة تقلباتٍ وتعقيداتٍ تراكمت يوماً بعد يوم، أسهمنا نحن أنفسنا في صنعها، مثلما أسهمنا بالصمت على حكم الأسد لسنواتٍ مديدةٍ إلى أن حان الوقت لنغيّر الواقع المفروض بالثورة عليه. فلم يُعرف من تلك الأحداث إلا ما يقبل المحاكمة العقلية وما يكشفه التراكم المؤلم للخبرة، بدليل أن أكثر ما يعرفه السوريون الآن هو الثمن الذي سيدفعونه إذا لم يقتلعوا النظام الكيماويّ وأجهزته، لأنهم اختبروا براميله وزنازينه وميليشياته الإجرامية. فإذاً، ألا يستدعي ذلك وقفةً جديةً لمراجعة الذرائع التي يستسهل إطلاقها؟
لا شك أن مجال المساهمة في العمل العامّ ليس كبيراً جداً الآن، لكن، بالمقابل، لم يكن الوضع في أفضل حالاته في ظلّ وجود سلطة بشار. ولذلك يصبح استعمال المعتكفين لخطاب التشاؤم دليلاً على رغبةٍ في إراحة الضمير من تحمّل عبء المسؤولية، عبر تحويل الثورة إلى شأنٍ أكبر من قدراتهم كبشرٍ طبيعين؛ فهي الآن "لعبةٌ للأمم" لا يقوى المتشائم المتواضع على فعل شيءٍ فيها، بعد أن قدّم ما قدّم من أثمانٍ لصالحها. ولذلك لم تعد تتوفر في الثورة تلك الجاذبية التي كانت تحققها من قبل للراغبين في التميّز، والأسلم إذاً إيجاد سبلٍ أخرى لتحقيق ذلك، بعد أن وفرت الثورة ذاتها خياراتٍ أخرى على مستوى الهجرة أو العمل أو الدراسة، ونقلت تلك الحيوات الهامشية إلى تجارب جديدةٍ لم تكن في المخيلة، ولن تقوى على تقديم بديلٍ متماسكٍ للعلاقة مع شؤون البلد وثورتها.
لأن الثورة السورية لم تعد ثورة السوريين فقط، ولأنها باتت معياراً للحقّ والظلم في العالم بجذريتها وتعقيدها، فقد تعلمنا أنّ كلّ ما حدث خلال سنواتها لا يعدّ نهاية القصة، وأن إسقاط النظام ليس إلا هدفاً مباشراً نسعى إليه، وأن علينا العمل طويلاً إذا أردنا أن نجاري عمق أهدافها.