رسامو دمشق بين مقاطعة الفن والعمل بـ(الباطن) لصالح فناني النظام

معرض "الفن الإيراني المعاصر" برعاية وزارة الثقافة السورية والمستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية بدمشق

يرتجل الفنانون محاولاتهم اليائسة للاستمرار، البعض ربما قاطع الفن والمعارض الفنية وآثر البحث عن لقمة عيش في مجال آخر، بينما يسعى البعض للاستمرار في مجالهم بأي ثمن.

سوسن (39 عاماً) فنانة تشكيلية توقفت عن الرسم وقاطعت المعارض الفنية، فحسب قولها لم تعد تحتمل بعد كل ما حدث أن ترى لوحة عن جمال الحياة، كما لا يمكنها بأي شكل من الأشكال أن تعبر عن رؤيتها الفنية للواقع دون رقابة أو محاسبة، ناهيك أن النشاط الفني في سوريا محكوم بالتزلف للنظام وملحقاته من المافيا الفنية: "بعز الحرب والقصف والمجازر كان في فنانين لسا عم يرسموا ورود وطبيعة وكأنه اللي عم يصير بمكان تاني، أنا بآمن أنه الفن إله رسالة وهو نابع من المجتمع وبيتوجه للمجتمع".

شاركت سوسن بلوحة في أحد المعارض المشتركة خارج البلد سراً قبل سنوات، وكانت تلك لوحتها الأخيرة، فبعدها أصيبت بالاكتئاب وحطمت مرسمها وفراشيها في نوبة من الغضب واليأس. ويتفق رائد (45 عاماً) -وهو نحات- معها، إذ ما زال بعد كل تلك السنوات يتابع الأخبار بنفس الاهتمام وكأن الثورة اندلعت بالأمس، لكنه أيضاً توقف عن الإنتاج الفني، ويرى أنها طريقته الوحيدة في التعبير.. يقول: "أنا فنان، وإذا ما فيني عبر عن رأيي من خلال فني، فما رح يفرق معي شو عم اشتغل". رائد الابن الوحيد لعائلة ميسورة تملك محلاً للألبسة في دمشق يعمل فيه، وهو ما ساعده على تدبر أموره المادية.

أما سمر فتعمل براتب لا يتجاوز ٧٠ ألفاً، مدّرسةً لمادة الرسم في إحدى المدارس الخاصة في القصور يومياً بدوام صباحي، إضافة إلى عملها ثلاثة أيام أخرى بدوام مسائي في أحد المراكز التعليمية، "انتهت أحلامي الفنية من زمان، هلق ما بدي غير أمن آجار بيتي". سمر فنانة تشكيلية في منتصف الثلاثينات، متزوجة ولديها طفل، تسكن في بيت متهاوٍ بمنطقة الدويلعة، وقد تركت أحلامها بالفن منذ سنوات حين لم يعد بإمكانها تحمّل تكاليف رسم لوحة واحدة "رسم لوحة اكريليك قياس ٧٠× ٥٠ صارت تكلف أكتر من آجار بيتي"، ومع ذلك فسمر ممتنة لأنها استطاعت أن تحافظ على شغفها بالرسم حتى اليوم، وهو ما يدفعها إلى قبول العمل في مجال التدريس براتب زهيد، وهو عمل يضمن لها أبسط أشكال التواصل مع الألوان. 

اتجهت شريحة كبيرة من الفنانين التشكيليين من الرسامين نحو التدريس لتأمين متطلبات الحياة الصعبة تاركين أحلامهم بأعمال فنية تحمل توقيعهم للنسيان. أما إلياس (41 عاماً) الذي انفصل عن زوجته في بداية الثورة بعد أن وصفته بالشبيح وغادرت البلد لاحقاً، فله سمعة سيئة بأنه يسترزق من خلال كتابة التقارير الأمنية عمَّن بقي في البلد من فنانين معارضين. إلياس نشيط وغزير الإنتاج، يشارك في معظم المعارض المدعومة من الدولة، مثل معرض الربيع والخريف المشترك الذي تقيمه وزارة الثقافة مرتين في العام وتقتني جميع الأعمال المشاركة بأسعار بخسة كنوع من الدعم للفن والفنانين، ليكون مصيرها التكديس في أحد أقبية الوزارة. 

أما مروان فهو فنان في الخمسين من عمره، بدأ في العام الماضي بتصنيع ألوانه الخاصة، وهي ذات جودة عالية وتكلفة رخيصة. لم يفصح عن طريقته خصوصاً بعد أن بدأت ألوانه تلاقي رواجاً بين الفنانين الشباب، لكنه بالدرجة الأولى يعتمد على استثمار حرفيته العالية في الرسم، فيُلبِّي كل الطلبات دون توقيع ودون سؤال في مرسمه الواقع في حي فقير متطرف بمدينة جرمانا؛ يرسم كل ما يطلب منه ويقبل بكل الشروط، ويقول: "الزباين مستحيل يقبلوا يجوا لهون، معظم الطلبات بتجيني عن طريق سمسار، السنة الماضية في وحدة من اللوحات اللي عطيته ياها كانت نازلة بمعرض باسم حدا تاني بدون حتى تعديل". 

يعلم مروان ما هي الصفقة ويقبل، فحاجته المادية أكبر من أن يرفض ما يعد استغلالاً له، ويعلم أنه لو حاول المشاركة باللوحة ذاتها باسمه في ذات المعرض لما قُبلت، فالأمر محكوم بالواسطة والمحسوبيات وهو أمر لا يملكه، ومن وجهة نظره فإن كثيراً من أبناء محدثي النعمة ممن تنقصهم الموهبة باتوا يستسهلون استغلال حاجة الفنانين في تنفيذ لوحات خاصة لهم يضعون توقيعهم عليها وينالون المديح والتصفيق.

 حالة مروان ليست فريدة، فكثر هم من يقومون بهذا الأمر. عمار مثلاً نحات يصب الأعمال الفنية بطريقة الشمع المهدور لأحد أهم النحاتين في البلد من المحسوبين على النظام، وبات معلوماً للجميع أن الأمر لا يتوقف عند الصب، بل يتجاوز ذلك إلى المشاركة بكل مراحل العملية الإبداعية بدءاً بالتصميم والتنفيذ وصولاً إلى الصب والعمليات الفنية. 

يحصل عمار على أجره المتواضع، بينما يضع النحات الشهير اسمه تحت العمل الفني وينهال بالمديح عليه وعلى "رؤيته الإبداعية"، ثم يرفض عمار الحديث عن الأمر، ولا يجرؤ أحد حتى على التلميح لذلك بحضوره، فهو يخشى على مصدر رزقه، خصوصاً وأن الحظ لم يسعفه في الوصول لمكانة تساعده في التخلي عن "أستاذه"، والبعض يتهامس أن "الأستاذ" نفسه هو من يقف في وجه طموحات الشاب خوفاً من خسارة الدجاجة التي تبيض أعمالاً فنية.

معظم أصحاب الورشات التي تقوم بعملية صب الخلائط المعدنية للأعمال النحتية هم من الفنانين الذين يلجؤون لهذه الحرفة كمصدر للدخل، ولكن الأمر يزداد صعوبة يوماً بعد يوم، في ظل ارتفاع أسعار المواد الأولية والمعدات اللازمة وشح مادة المازوت وانقطاع الكهرباء، يضاف إلى ذلك الوضع الأمني المزري، فمعظم هذه الورشات تقع بعيداً عن المناطق السكنية بسبب التلوث والروائح الصادرة عن  الورشة، ما يجعلها عرضة للسرقة. 

استأجر نبيل (43 عاماً) وهو نحات خريج معهد الفنون التطبيقية، محلاً على أطراف مدينة دمشق ليحوله إلى ورشة للعمل، لكن المحل تعرض للسرقة مرتين، ما كلفه خسائر مادية كبيرة "بعد ما انسرق المحل أول مرة اضطريت أتدين لحتى إقدر اشتري معدات وأقفال جديدة وكاميرا للمراقبة، وبعد أسبوع واحد انسرقت الورشة مرة تانية". 

يعلم نبيل أن من سرقه، في المرة الثانية على الأقل، هم أشخاص من المحسوبين على ”الدفاع الوطني“، وعلى الرغم من تقدمه بشكوى، فإنه لم يجد أذناً صاغية ولا دليلاً مادياً لديه، فحتى بوجود كاميرا للمراقبة لم يستطع إثبات الادعاء على الأشخاص الملثمين الذين كانوا يرتدون زياً عسكرياً مموَّه. 

ورغم كل الصعوبات التي تواجه ورشات صب الأعمال النحتية، وارتفاع أسعار المعادن التي تدخل في تركيبة البرونز، إلا أن النحاتين ما زالوا يفضلون صب أعمالهم في سوريا، بسبب انخفاض أجور اليد العاملة مقارنة بدول الجوار، ويلجأ كثير من النحاتين الشباب من أصحاب الورشات لشوي أعمالهم الخاصة المصبوبة خلال عملهم على أعمال فنانين آخرين، لتوفير الوقود اللازم لتشغيل الفرن كل مرة، بينما يلجأ آخرون ممن لا يملكون الإمكانات الكافية لصب أعمالهم، إلى عمل نماذج فنية من الجبصين أو الطين على أمل إيجاد راغب بالشراء، فيتم الاتفاق على صب العمل، لكن هذا الأمر يعرض النموذج للتلف أو الكسر.