يوميَّاً، ومن أمام فرن للمعجَّنات في مدينة إدلب، يبدأ محمد (15 عاماً) جولته متسوِّلاً ليجمع (1500-2000) ليرة في نهاية النَّهار. هذا عمل بالنِّسبة للفتى النازح من كفر بطيخ جنوب إدلب، والذي تحوَّل بعد مقتل أبيه بغارة جوية لطيران النظام، من طفل لا يهمُّه سوى اللَّعب إلى مُعيل لأسرته من خلال استعطاء الناس في الشوارع.
بعض الباعة يطردون الفتى وغيره من المتسوِّلين، وبعضهم يغضَّون النظر عن إلحاحه على بعض الزبائن، وكثيراً ما يسمع نصائح قاسية بأن العمل أجيراً في أي مهنة أفضل "من الشحاذة والبهدلة بالشوارع". يقول محمد إنه فتَّش عن عمل في "المحلات التجارية والمطاعم والكل قلعوني.. فأشو أعمل؟“.
قبل شهر قرَّرت أم عمر (43 عاماً) وهي نازحة من ريف إدلب الجنوبي أيضاً، أن تنزل إلى الشوارع، لأنها اضطرَّت إلى "الشحادة" لإعالة أطفالها الستَّة وزوجها المعاق، لم يساعدها أحد "لا منظمات ولا غيره.. ظليت فترة عم دور على أي شغل وما استفدت شي.. تسكَّرت كل الأبواب" ولم تجد سوى الخروج إلى الأسواق، بعد أن فقدت مصدر عيشها من المساعدات التي كانت تتلقَّاها من أقرباء زوجها، مع نزوحها من معرَّة النعمان.
وعلى أطراف الطُّرقات، وفي ساحات وحواري المدن وفي الأسواق العامَّة، وداخل أو خارج المطاعم والمحال التجارية، وعلى أبواب المساجد.. لا يعدم المتجوِّل من مصادفة عشرات المتسوِّلين الذين يطلبون المساعدة، خاصة في الأماكن العامة وسط مدينة إدلب التي تؤوي الكثير من النازحين.
بكري الخطيب صاحب أحد المطاعم في مدينة إدلب يشكو كثرة المتسوِّلين الذين يدخلون إلى المطعم يومياً لطلب المساعدة، وتتراوح أعدادهم -كما يقدر- بأكثر من 40 متسولاً في اليوم، يغلب عليهم النساء والأطفال، ويطلب غالبيَّتهم وجبات غذائية من المطعم أو من المنظمات الإنسانية التي تحضِّر وجبات غذائية للفقراء والمحتاجين.
يقول الخطيب: "من فترة، زلمة عمره 35 سنة تقريباً، طلب وجبات غذائية. عرضت عليه يشتغل بالمطعم براتب شهري، بس ما رضي أبداً". وهي حادثة من جملة حوادث، تعزِّز فكرة كون المتسوِّلين ليسوا بحاجة للمال، وأن التسول أصبح مهنة لدى الكثيرين، وهو ما يؤثر على المتسولين المحتاجين بحق، كما يشرح محدثنا، ويذكر أن في "شارع المطاعم" بمدينة إدلب ثلاثة مطاعم يزورها يومياً ما يقارب 100 متسول طلباً للغذاء أو المساعدة المالية من الناس، جميعهم يأتي 3 أو 4 مرات يومياً، حتى لو تم منحهم المال أو الوجبات الغذائية، "طمعانين يحصلوا أكتر".
يرى من يؤيِّد وجهة نظر صاحب المطعم، أن أغلب المتسولين يتقصَّدون ارتداء ثياب بالية أو المشي بلا أحذية لاستعطاف الأهالي، فيما يلجأ بعضهم إلى إبراز ورقة طبِّية لتأكيد حاجتهم إلى المال.
وفي إحدى مساجد مدينة كفرتخاريم شمالي إدلب، وبينما يتجمَّع أربعة متسولين على بابه للحصول على المساعدة من المصلِّين عند الخروج، يذكّر خطيب المسجد باستمرار في خطبته بوجوب البحث عن الفقراء وتفقُّد النازحين ومساعدتهم، ويستشهد بالآية الكريمة (وأما السائل فلا تنهر)، نظراً لانتشار فكرة امتهان التسوُّل واستسهاله، وقناعة الكثيرين بأن غالبيَّة المتسولين ليسوا بحاجة للمساعدة، ما يجعلهم عرضة للمضايقات والزَّجر والطرد، عدا عن العزوف عن مساعدتهم.
أغلب المتسولين على أبواب المساجد من النساء اللواتي يضعن غطاء على وجوههن، ومعهن قطع قماشية بين أيديهن من أجل وضع الأموال داخلها، مع شرح كل امرأة قصَّتها بصوت عال: "من مال الله.. زوجي مريض وقاعد بالفراش، وعندي سبعة أطفال بدي طعميهم.." لإقناع الخارجين من المسجد بعكس ما ترسَّخ في الفترة الأخيرة من قناعات حول المتسولين.
فيصل السليم عضو في جمعية خيرية بريف إدلب الجنوبي، انتقل للعيش في مدينة إدلب بعد نزوحه من منطقته، حيث كان يرعى بعض الفقراء أو المتسولين مالياً، من خلال جمع التبرعات من المغتربين والأغنياء بهدف القضاء بأكبر قدر ممكن على هذه الظَّاهرة التي باتت تنتشر في المجتمع، عبر الاستماع إلى قصص المتسولين والكشف عن حاجتهم، ومحاولة تأمين الأموال لسد جزء من متطلباتهم، والطلب من المتسول أن يتعهَّد بعدم التسول مرة أخرى، ولكن بعد موجات النزوح الأخيرة أصبح الأمر أصعب بكثير من أي وقت مضى بسبب كثرة المتسولين.
يقول فيصل السليم: "المبالغ المالية التي تصل لا تكاد تكفي 10 بالمائة من متطلبات المحتاجين الذي يضطرون للتسول لجلب قوت يومهم، إذ باتت تقدَّر أعداد المتسولين في مدينة إدلب وحدها بأكثر من 2000 متسول بحسب إحصاءات ناشطين محليين، بينما كانت لا تتجاوز 10 متسولين في المنطقة الواحدة قبل موجة النزوح الأخيرة"