بعد ثماني سنوات.. جذوة الربيع العربي ما تزال متقدّة

آلان غابون
17 كانون الأول عن موقع The Middle East Eye

ترجمة مأمون حلبي  

ما يزال الربيع العربي مصدر إلهام فعّال ودافع قوي لمزيد من الاحتجاجات بالرغم من المشهد الإقليمي الباعث على الأسى والغم، بالرغم من أن المرء حين يتذكر الأمل المُثلج للصدور بدمقرطة المجتمع و بنظام شرق أوسطي أفضل -هذا الأمل الذي أطلقته ثورات 2011- يبدو المشهد السياسي الحالي للمنطقة مشهداً مُثبّطاً للهمم، وتبدو مفردات وعبارات ما "بعد الربيع العربي" مبرّرة تماماً.
 

مشهد كارثي

في وقتنا هذا تبدو المنطقة أبعد من أي وقت كان عن رؤية مجتمعات ديمقراطية يسودها السلام، عادلة ومزدهرة و استيعابية؛ الرؤية التي كانت حلم ملايين المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع والساحات العامة يحدوهم أمل وفرح غامرين في كل أنحاء المنطقة، من المغرب إلى البحرين ومن مصر إلى اليمن. يبدو اليوم وكأن تلك اللحظة المثيرة تعود إلى حقبة تاريخية غابرة، حتى أنه من الصعب أن يتخيّل المرء أن هذا الأمر قد حدث قبل ثماني سنوات فقط، ففي الحقيقة الوضع الآن أسوأ وأكثر كارثية بكثير مما كان عليه قبل أن يحرق البوعزيزي نفسه في كانون الأول 2010.

فمصر التي أصبحت ساحة التحرير فيها الرمز الملهم للربيع العربي، ترزح الآن تحت نير طاغية فاشي أسوأ بكثير من سابقه حسني مبارك. والسعودية و الإمارات والبحرين تبقى محكومة من قبل حكّام مُطلقين يتوارثون الحكم عائلياً. أما اليمن فيُقتل سكانه منذ أربع سنوات بتوليفة فظيعة من الحروب بالوكالة والحرب الأهلية والمجاعة المُصطنعة والأمراض. بعض البلدان تفكّكت إلى درجة أنها قد تكون عصيّة على الإصلاح لعقد قادم أو أكثر، مثل سوريا وليبيا اللتين تفتتا وانهارتا.

فلسطين طريق مسدود

الوضع الفلسطيني - الإسرائيلي وصل إلى طريق مسدود، أساساً بسبب تصميم إسرائيل (وحلفائها) على منع قيام دولة فلسطينية وبسبب إدارة ترامب؛ ويظهر أن الجميع، بما فيهم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومعظم الدول العربية، قد تخلّى عن الشعب الفلسطيني. وحتى تونس، البلد الذي نجح فيه الربيع العربي، يعاني منذ سنوات وضعاً هشاً وغير مستقر، وحكوماتها المتعددة في حقبة ما بعد الثورة عاجزة تماماً عن حل المشكلات الاقتصادية التي تنغّص عيش هذا الشعب وتعرّض مستقبله الديمقراطي للخطر. في غضون ذلك تكافح بلدان أفضل نسبياً للإفلات من المتاعب وتجنّب دوامة التشظّي والانهيار والعنف الفظيع، لكن الوضع مأساوي ومرعب بالفعل أينما أجال المرء نظره.
 

لماذا فشل الربيع العربي

ليس من الصعب أن نفهم كيف انتقلنا من أحلام نبيلة ولافتة بنظام عربي أفضل إلى كوابيس العنف متعددة الأشكال، والتي نلاحظها على امتداد المنطقة؛ العامل الرئيسي في هذه النتيجة التاريخية المحزنة كان -دون شك- القمع الوحشي الهائل الذي سرعان ما أُطلق ضد الثورات من قبل زعماء الدول مثلما فعل الأسد في سوريا، ومن قبل قوى الدولة العميقة مثلما فعل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر.

فبعد الإطاحة برئيس تونس بن علي وإدراكهم بأن الثورة ضدهم كانت جدية، انتقلت الطغم الحاكمة وطغاتها على الفور إلى أسلوب الثورة المضادة؛ لقد فهموا بوضوح أن هذا الأمر بالنسبة إليهم كان صراعاً تاريخياً من أجل البقاء، ومن أجل ذلك حشدوا على الفور الموارد الهائلة -عسكرية، سياسية، اقتصادية، دعائية- لتصبح رهن تصرفهم قبل أن يفوت الأوان، مع التعاضد فيما بينهم عندما يتعلق الأمر بإنهاء هذه الاحتجاجات بإغراقها بالدم، كما فعلت السعودية في البحرين.

الوسائل اللوجستية التي يستطيعون حشدها، بما في ذلك قواتهم الأمنية الضخمة وخبرتهم الطويلة ومهاراتهم في القمع، وتصميمهم الراسخ على دفن تلك الثورات في المهد، ومناوراتهم الماكرة- كل ذلك تفوق على المحتجين وعند الضرورة تم إغراقهم بالدم؛ لقد رصَّت قوات الدولة وأجهزتها القوية صفوفها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حكم أولئك الطغاة.
الثورة في مواجهة الثورة المضادة

اللاعبون والمحتجون الثوريون، الذين واجههم فاعلون مضادون ومتفتقو الذهن أذكياء وبلا رحمة وقادرون، هُزِموا بكل بساطة على الرغم من الملايين التي كانت قد نزلت إلى الشوارع؛ كان المحتجون يفتقرون للقادة، ويفتقرون لموارد حقيقية سوى أجسادهم وروحهم وشجاعتهم (الجديرة بالإعجاب لكن الضعيفة بمواجهة الرصاص)، ولم يكن لديهم عمق برنامجي حقيقي أو مهارات إستراتيجية، وارتكبوا في كثير من الأحيان أخطاء مأساوية.

فعلى سبيل المثال، عندما دعمت حركة "تمرد" المصرية، التي أسكرها وأدار رأسها النجاح الأولي المذهل للربيع العربي، بتهور الانقلاب العسكري للسيسي عام 2013 ضد الرئيس مرسي المنتخب ديمقراطياً، اعتقدت الحركة -بغباء- أنها تستطيع أن تتحكم بـ/ أو تضبط إيقاع قوة مثل المجلس العسكري، الذي كان أكثر تمكناً من مرسي بأشواط. نتيجة لهذه السذاجة، سرعان ما وجد طلاب حركة تمرد أنفسهم يشاركون خصومهم السابقين من "الإخوان المسلمين" الزنازين عندما انقلب السيسي عليهم بعد أن تخلص من مرسي والإخوان المسلمين.

السبب الثاني للانهيار السريع للربيع العربي وانتهائه إما إلى حالة العنف أو إلى حكم الفرد المطلق هو أن المحتجين بالغوا إلى حد كبير بتقييم أنفسهم وقدراتهم، في حين أنهم غالباً ما قلّلوا من قيمة الدعم المتواصل من شرائح كبيرة من السكان للديكتاتوريين وللأنظمة التي كانوا يريدون الإطاحة بها، كما في حالة الأسد في سوريا.

دول أخرى تعتمد العنف بشكل مبطّن، وحكّام آخرون كملك المغرب وآل سعود استخدموا مزيجاً من القسر والتهدئة عبر المنافع الاقتصادية، وإصلاح معتدل لا يضر بحكمهم، وتسخير الدين وتبعية نخبته المشيخية، والتهديد بالقوة و/ أو القمع الفعلي في إستراتيجية مضادة للثورة متعددة الجوانب ومحبوكة جيداً- إستراتيجية أجهضت أو قللت من زخم احتجاجاتهم أو خنقتها داخل بلدانهم.

لعبت عوامل أخرى -مع أنها أقل أهمية وليست حاسمة- دورها، كالغياب التام للدعم من "الغرب الديمقراطي الحر"، الذي أدى قادته في أفضل الأحوال خدمة لفظية منافقة للربيع العربي، قبل أن يستأنفوا دعمهم الكامل لتلك الدول القمعيّة ولطغاتها المستبدين القدامى والجدد بأسرع ما استطاعوا.


مبررات للأمل

على الرغم من الوضع المحبِط لمعظم البلدان وما تم تقديمه آنفاً، ثمة مبررات للأمل. وينبغي عدم التقليل من أهمية الربيع العربي وانشغالنا به أو وصفه كفشل كُلّي، كما يفعل معظم المحللين منذ سنوات، فمن منظور سياسي هذا الأمر يمكن فقط أن يُعمّق اليأس وفقدان الأمل، بينما من منظور تاريخي فتوصيف من هذا النوع صحيح فقط جزئياً، إضافة إلى اتصافه بقصر النظر لتركيزه الزائد على الوضع الحالي.

أولاً: الإطاحة بأربع ديكتاتوريين في سنة واحدة (بن علي، مبارك، القذافي، صالح) متبوعة بانتخابات حرة في عدة بلدان مع ظهور ديمقراطية حقيقية واحدة على الأقل (تونس)، وبعض الإصلاحات في بلدان كالمغرب، كل هذا يجب بالطبع عدم اعتباره قليل الأهمية.

ثانياً: تبقى تجربة الربيع العربي المثيرة، التي كانت بالنسبة للملايين أول مرة يتذوقون فيها طعم الحرية والسيادة الشعبية، تبقى لحظة تأسيسية إضافة إلى كونها نموذجاً ومصدر إلهام مستمر.

ثالثاً: دحض الربيع العربي نهائياً فكرة أن العالم العربي لا أمل له، وأنه أبداً لن يكون قادراً على تحقيق الحرية والسيادة الشعبية كما سبق وحقق ذلك قسم كبير من العالم؛ ولكونه هكذا، كان العالم العربي نوعاً من الاستثناء الجغرافي – الثقافي.

رابعاً: أظهر الربيع العربي أن تلك الأنظمة الطغيانية، التي كان كثير من الناس يظنّون أنها لا تهتز أو على الأقل أنها قوية ومستقرة، كانت فعلياً نموراً من ورق يمكن تحديها وهزيمتها؛ وإذا كان زعماء دول مثل السيسي والأسد ومحمد بن سلمان يقمعون أي علامة من علامات الخروج عليهم بالوحشية التي شهدناها، فهم إنما يفعلون ذلك بدافع الخوف، بل وحتى اليأس، وهمجيتهم التي تتجاوز كل ما شهدناه قبل 2011 تعبّر عن مقدار هشاشتهم. من أجل هذا يبذل أولئك الطغاة جهوداً مضاعفة لمحو حتى مجرد ذكرى الربيع العربي، لكن الخيال الحالم كان على الدوام سمة أساسية للإنسانية، ويبقى الربيع العربي جزءً هاماً ومتكاملاً لذلك الخيال الفعال مع أنه قد يبدو خامداً مؤقتاً.

خامساً: من غير الصحيح -استناداً إلى الوقائع- القول بأن الربيع العربي قد انتهى، لأنّ الأماكن التي يتواصل فيها غير معدومة، ولو أن ذلك يحدث على نطاق أصغر، وبأشكال محليّة ومختلفة وأقل لفتاً للانتباه.
مصدر إلهام فعّال

بالرغم من الصعوبات الاقتصادية، لم يفقد الشعب التونسي شيئاً من ولائه للديمقراطية وإرادته في معارضة ومقاتلة القادة العرب القمعيين والفاسدين والمتفردين بالحكم، كما اكتشف محمد بن سلمان أثناء رحلته إلى هناك في هذا الشهر، حتى عندما كان يحاول شراء صمت هذا الشعب. وفي سوريا تستمر المعارضة لنظام الأسد، ويبقى ملايين السوريين ملتزمين بمستقبل مدني ديمقراطي لبلادهم يستوعب الجميع. وشهد الأردن موجات جديدة من الاحتجاجات الجماهيرية أججتها نفس المطالب والإحباطات والروح التي أججت الربيع العربي. وفي المغرب أوجد مزيج من الاستبداد السياسي والركود الاقتصادي وزيادة كبيرة في عدد السكان شباباً قلقاً لم يعد يتردد في النزول إلى الشوارع بشعارات صريحة ضد الملك؛ وحركة الريف المغربي التي بدأت عام 2016 وقُمعت بقسوة من قبل النظام تمتد طوال العامين الماضيين إلى أجزاء أخرى من البلاد. وكان العراق أيضاً مسرحاً لتمردات مماثلة معادية للحكومة قام خلالها المحتجون بمهاجمة وحرق المباني الحكومية ومراكز الشرطة ومقرات المليشيات المسلحة والأحزاب السياسية.


الربيع العربي لم ينتهِ

لا يمكن للربيع العربي أن ينتهي لسبب بسيط، وهو أن الظروف في كل مكان التي خلقت التربة الثورية وأنجبت ثورات 2011 ما تزال موجودة، وأحياناً بأشكال أسوأ، كما في مصر وسوريا؛ وهو قد لا يتخذ شكل ثورات شعبية ضخمة ومفاجئة.

قد يكون إصلاحياً، تدرجياً، تصاعدياً، متقطعاً ومحلياً، لكن هذا الربيع سيستمر، وهو في الحقيقة مستمر.