السيادة الوطنية المسيّسة بين النظام والمعارضة

في عمليةٍ عسكريةٍ كبيرةٍ، استغرق التحضير لها شهوراً، قامت وحداتٌ من الجيش التركيّ بنقل ما يُعتقد أنه رفاتُ الجدّ الأقدم لسلالة آل عثمان، سليمان شاه، من موقعه الواقع قرب منبج، على عمق 33 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، إلى داخل الأراضي التركية. على أن يُنقل لاحقاً إلى ضريحٍ مؤقتٍ داخل الأراضي السورية، جارٍ العمل على إنشائه فوق أرضٍ زراعيةٍ قرب بلدة عين العرب/ كوباني.

وكالة الأناضول

جاءت ردّة فعل المعارضة السورية على هذه العملية في تصريحٍ لرئيس الائتلاف الوطنيّ، خالد خوجة، قال فيه إن: "عملية سليمان شاه كانت ضمن الإطار القانونيّ، حيث تحرّكت تركيا ضمن الحدود القانونية حسب المعاهدات والمواثيق الدولية، وضمن علم الائتلاف رسمياً، وفي إطار التنسيق مع الجيش الحرّ".
يبدو، للوهلة الأولى، أن رئيس الائتلاف قد بذل كلّ ما في وسعه من ذرائع لإضفاء الشرعية على العملية العسكرية التركية. وهذا أمرٌ مفهومٌ بالنظر إلى العلاقة المميّزة التي تربط أطرافاً مهمةً في الائتلاف بالحكومة التركية التي وضعت مهمة إسقاط نظام الأسد الكيماويّ صراحةً ضمن أجندتها الوطنية. لكن غير المفهوم هو غياب أيّ كلامٍ عن السيادة الوطنية في تصريح خوجة، حتى لو كان بالمفهوم المجرّد للسيادة، نظراً لضياعها الواقعيّ التامّ بسبب ما فعله النظام بها على مدى السنوات الأربع الماضية.
المفارقة أن النظام الذي استتبع سوريا تماماً للسيادة الإيرانية، وفقد السيطرة على جميع حدوده ومعابره، وعلى سبعين في المئة من أراضي الدولة السورية، هو الذي يجعجع بالسيادة المزعومة، مقابل غياب هذا المفهوم تماماً لدى الإطار المفترض للمعارضة، بسبب تسييس الطرفين لمفهوم السيادة الوطنية. فالنظام ينسى هذا المفهوم إذا تعلق الأمر بخرقها من قبل حلفائه الإيرانيين وأتباعهم من الميليشيات الشيعية، ويتذكره حين يتعلق الأمر بأعدائه السوريين أو الأجانب سواءً بسواء. وبالمقابل، يتحدث المعارضون عن احتلالٍ إيرانيٍّ لسوريا، وينسون السيادة الوطنية تماماً إذا تعلق الأمر بخرقٍ تركيٍّ كما حدث في عملية "شاه فرات".
نظراً للظروف الملموسة التي تمرّ بها سوريا، ليس مطلوباً من المعارضة أن تسجّل رفضها للعملية التركية. بل أكثر من ذلك، قد يمكن تفهّم قبولها بدوافع الحليف التركيّ في إنقاذ القيمة الرمزية للضريح من هجومٍ محتملٍ من داعش. لكن الإعلان عن "القانونية" المزعومة للعملية ليس من شأن المعارضة، في الوقت الذي كشفت فيه أصواتٌ رصينةٌ ومحترمةٌ في الرأي العامّ التركيّ -من خارج الحكومة- عن الخرق الصريح الذي شكلته العملية العسكرية للقانون الدوليّ.
ذلك أن معاهدةً فرنسيةً-تركيةً، تمّ التوقيع عليها في العام 1921، حين كانت فرنسا منتدبةً من عصبة الأمم على سوريا بعدما تفككت الامبراطورية العثمانية، أقرّت بملكية تركيا لقطعة أرضٍ قرب قلعة جعبر، داخل الأراضي السورية، يقوم عليها الضريح المفترض لسليمان شاه، مع حق الدولة التركية بتأمين الحماية اللازمة له، وما يستتبع ذلك من أمورٍ لوجستية. وفي العام 1973 تمّ نقل الضريح إلى مكانه الحاليّ بسبب احتمال غمره بمياه سدّ الفرات، بموجب اتفاقٍ بين الدولتين. إنها أرضٌ محاطةٌ تماماً بأراضٍ خاضعةٍ للسيادة السورية، ينطبق عليها ما ينطبق على مباني السفارات والقنصليات، التي يخضع العاملون فيها لقوانين الدولة المضيفة ما إن يخرجوا من حرم السفارة أو القنصلية. ولا يشبه الوضع القانونيّ لضريح سليمان شاه وضع لواء الإسكندرون، الذي مُنح لتركيا أيضاً من قبل المحتلّ الفرنسيّ بموجب معاهدةٍ بين الدولتين، وقد بات جزءاً من الأراضي التركية يسمّى اليوم "ولاية هاتاي".
وكما لا يحقّ لأية دولةٍ نقل سفارتها من مكانٍ إلى آخر بغير موافقة الدولة المضيفة، فلا يحقّ للحكومة التركية نقل ضريح سليمان شاه إلى مكانٍ آخر داخل الأراضي السورية بقرارٍ أحاديٍّ. صحيحٌ أن حكومة نظام الأسد الكيماويّ فقدت شرعيتها لدى غالبية السوريين، كما لدى مئة دولةٍ من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، لكن هذا لا يضفي الشرعية القانونية على عملية نقل الضريح. وإذا كان يمكن تبرير نقله المؤقت إلى داخل الأراضي التركية بالنظر إلى الخطر الإرهابيّ المحتمل عليه، فلا وجه قانونياً لتبرير إقامة ضريحٍ جديدٍ لسليمان شاه داخل الأراضي السورية. وهو ما تقوم به الحكومة التركية على قطعة أرضٍ زراعيةٍ يملكها فلاحٌ كرديٌّ من أبناء قرية أشمة الحدودية، لم يُستأذن في الاستيلاء على أرضه ولا تمّ تعويضه.