يوماً ما في داريا.. كيف كنا نكتب وننتقد ونتعرض للتشويه

بخط وعدسة سامر أبو موفق

خلال احتسائنا للمشروب المفضل لكلينا (المتة)، أو تناولنا سمك التونا المعلب مع البندورة والجرجير والبقوليات، كنا نعمل أنا وعلاء عرنوس، الصحفي الحمصي الذي صار بعد فترة من ذلك مراسلاً للجزيرة نت، على تأسيس مؤسسات إعلامية تساهم إلى حد ما في (توجيه البوصلة)، وتمارس دور الرقابة على الفصائلية التي أضحت ظاهرة جارفة منتصف العام 2012 في مدينة داريا.

كان عرنوس يكتب مقالات في الجريدة الوليدة التي أسسها مع فريق من نشطاء داريا "الصحوة"، بينما كنت منهمكاً في التفكير بإطلاق صحيفة (متخصصة بالنقد الصحفي)، تأخرت قليلاً حتى نهايات العام 2013. كتب عرنوس عن الجيش الحر، وعن الثورة بشكل عام. كانت "الصحوة" بداية لصحافة جديدة في داريا خطت لنفسها طريقاً أقرب إلى النقد، لكن الأخير مشروع لم يكتمل، جراء توقف الصحيفة عن الصدور بعد عددين أو ثلاثة، عقب الحملة العسكرية على داريا في تشرين الثاني 2012.

أحد أيام صيف العام الثالث للثورة، وفي ظل الحصار المفروض على الشقيقتين، داريا ومعضمية الشام، كنت جالساً أمام أحد خطاطي مدينة المعضمية، أراقب تنفيذ (لوغو) جريدتي الجديدة، بينما كان الأطفال الصغار للخطاط، الذي كان مصمم إعلانات ورسام كاريكاتير أيضاً، يقفزون حولنا كالقطط الجميلة. خط "أبو محمد" اسم الصحيفة بخط الثلث "البلد"، ثم كتب فوق اللوغو العريض بقلم أصغر حجماً، "بلدنا" بخط الرقعة، متبعاً هذه الكتابة بوصف المجلة في الأسفل بنفس الخط  (أسبوعية - سياسية - محلية - ناقدة)، كانت هذه الخطوة التالية بعد جريدة الصحوة في الصحافة الناقدة.

في تلك الفترة ساهم الحصار الذي فرض على داريا في جعلها أشبه بمقاطعة صغيرة. شكّل الثوار مجلساً محلياً كواجهة مدنية نشأ عنه مكتب للأمن والشرطة، كما ضم هذا المجلس عدة مكاتب، شملت الإغاثة والإعلام والعلاقات والقضاء والخدمات، إضافة لكل من المكتب المالي والعسكري. ومع تزايد أعداد مقاتليه، جراء دعم المجلس المحلي له، غدا "لواء شهداء الإسلام" بمثابة الذراع الفعلي للإدارة المدنية، في حين شارك  لواءا "سعد بن أبي وقاص" و "المقداد بن عمرو" التابعان للاتحاد الإسلامي لأجناد الشام في إدارة المدينة بشكل جزئي معظم الأحيان؛ نحو هذه الإدارة الجديدة توجهت سهام النقد، سواءً من قبل جريدة البلد أو نشطاء ومثقفين على مواقع التواصل الاجتماعي، بل وصل الأمر في بعض الأحيان إلى الكتابة على الجدران، كما كان يصنع النشطاء الأوائل للثورة.

عقب نشر العدد الأول من جريدة "البلد بلدنا" حدثت بلبلة بين قراء العدد، الذين اطلعوا على مقالة صغيرة في الورقة الأخيرة بعنوان (في المطبخ). انتقدت هذه المقالة بعض الإساءات التي يتعرض لها المدنيون أثناء تجمهرهم في مطبخ داريا يومياً، واصفة الطباخ الذي يقوم بتوزيع الطعام بلؤم واضح- ب"صاحب الكرش المتدلية". كان الهدف من هذا التعبير الإفصاح عن المعاملة السيئة التي يلقاها البعض من هذا الرجل.

عقب نشر المقال استاء أخو الطباخ، وكان عضواً في المجلس المحلي، وطلب طردنا من داريا. ذهبنا لتطييب خاطر الطباخ -الذي بدا طيب القلب على خلاف ما يظهر في المطبخ- بمعونة عضوين في المجلس المحلي، وهكذا مرت الأزمة بسلام، ولكننا لم نتوقف عن ممارسة دور الصحافة في نقد الأخطاء والرقابة، وبقينا قرابة شهر كامل نتحدث عن هذه الحادثة.

طبعنا (50)  نسخة من العدد الأول بسبب نقص الحبر والورق في ظل الحصار، ثم أصدرنا الأعداد الستة الأخرى إلكترونياً. ما يدل على نجاح التجربة هو كمية رسائل المعاتبة التي كانت تصلني جراء ما ينشر في جريدة "البلد بلدنا". الجميع كانوا يتمنون توقف هذا النهج، ليس لعدم جدواه، وإنما بحجة أن النظام ما يزال موجوداً، ف"علينا توجيه سلاحنا فقط نحوه"، ولم نكن مقتنعين بهذه الحجة التي غدت فيما بعد ترنيمة يشدو بها الجميع للوقوف أمام أي انتقاد.

بعد نشرنا لحديث صحفي مع قائد في لواء شهداء الإسلام، تعرّض هذا القيادي لمساءلة لوائه، ومن المجلس المحلي، لتصريح ورد في اللقاء يتعلق بإهمال متعمد من قبل المعنيين لكتيبة هذا القيادي.. استدعانا الرجل الذي بدا متضايقاً من الإحراج الذي تسبب به المقال، وطلب الاعتذار عنه على صفحات الجريدة، وهذا ما حدث بالفعل بعد أخذ ورد، فقد اضطررنا آسفين للاعتذار، كي لا يتعرض صاحبنا لضغط أكبر.

خلال فترة إصدار "البلد بلدنا"، قمنا بتخصيص زاوية أسبوعية فيها أطلقنا عليها اسم (حقوق الناس)، تحدثت عن الانتهاكات التي يتعرض لها مقاتلون من قبل قيادات الفصائل. في أحد أيام شتاء 2013، وفي ظل البرد القارص، زارنا أحد المقاتلين وأخبرنا أنه ينوي الانشقاق عن كتيبته للالتحاق بكتيبة أخرى، لكنه يخشى من الإساءة التي قد يتعرض لها جراء هذه الخطوة التي كانت ممنوعة لدى بعض الألوية.

ترك هذا المقاتل كتيبته الأساسية، ما جعله يتعرض للحبس ولحلاقة شعره (على الصفر)، وبالفعل نشرت قصته في نفس اليوم في زاوية (حقوق الناس)، بكل تفاصيلها لكن دون ذكر الأسماء حتى لا تتأزم القضية، ف"نكون بشي ونصير بشي"، كما عبّر أحد أعضاء فريق الجريدة. فيما بعد؛ أخبرنا الفتى الذي تعرّض لهذه الإساءة أن المقالة كانت ناجحة وساهمت في إطلاق سراحه. جرت عدة حوادث من هذا النوع في تلك الفترة.

عدا عن استخدام الصحافة في انتقاد الأوضاع السيئة التي وقعت فيها داريا نتيجة الحصار، وعدم إطلاق عمليات عسكرية جادة تنهي الأوضاع المأساوية؛ كان العديد منا يلجؤون للتدوين على فيسبوك. كان أبو الفاتح الداراني أحد أهم النشطاء الذين انتشرت تدويناتهم في داريا ولاقت نجاحاً كبيراً.

تخرّج أبو الفاتح من كلية أصول الدين في دمشق، ويتمتع الرجل بثقافة دينية وعلمية عالية، لذلك شملت تدويناته جوانب متعددة، مثل الحديث عن توجه كل من لواء شهداء الإسلام والمجلس المحلي "المبتعد عن ثوابت الإسلام" كونه -كما يصف أبو الفاتح- "يميل إلى العلمانية"؛ كما تطرقت المنشورات إلى قضية شغلت داريا أكثر من سنة، وهي مسألة "لواء الأحرار" الذي تشكل من انشقاق مجموعات عن لوائي "سعد بن أبي وقاص وشهداء الإسلام".

بعض التدوينات تحدثت عن غياب الإدارة الناجحة للموارد من قبل مسؤولي الإغاثة والمطبخ. كتب أبو الفاتح في إحدى تدويناته "يجب تطهير المجلس المحلي بداريا من المفسدين والفاسدين. متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟ عندما تتكاثر مشاهد الفساد لترسم صورة مافيوية تتعالى فوق كرامة الناس وتكرّس ظاهرة الإذلال المتعمد للناس... يصبح السكوت عنها نوعاً من السكوت عن المنكر الغير مبرر"

ووجّه في تدوينة أخرى القائمين على المدينة -للتخلص من احتكار التجار لأغلب مواردها- بضرورة ترشيد الموارد، وإقامة مشاريع إنسانية فاعلة مثل المشاريع الزراعية والطاقة البديلة والتعليم والتربية، ثم محاسبة تجار الحروب وضبطهم بالقوانين الحاسمة. وما يزال الرجل يكتب على مواقع التواصل الاجتماعي حتى الآن...

في بعض الحالات الاستثنائية كان البعض يلجأون إلى الكتابة على الجدران للتعبير عن مطلب معين، أو انتقاد تصرف لجهة ما.. في تموز 2013  صحا المقاتلون المرابطون على جبهة شارع العباس وسط المدينة على عبارات موحدة (طرشت طرش) على جدران نقاط الرباط. كانت العبارة تتمثل في الأغنية التي انتشرت في تلك الفترة "بدنا قيادة، تريد الشهادة، لا للسيادة، ع الشعب". وحينما قرأها قائد الكتيبة، خلال جولته اليومية على المقاتلين، لم يستطع إخفاء تمعّر وجهه من شدة الاستياء!.

جميع من كان في داريا يتذكر تلك العبارة التي كتبت على جدران المدينة باللون الأحمر في بدايات العام الرابع للثورة، حيث كان الحصار على أشده في داريا: "من يجاهد لأجل الدعم فليغادرنا، ومن يجاهد لأجل الله فهو قائدنا" وتحتها كتبت جملة صغيرة صادمة باللون الأزرق "يسقط المجلس" في إشارة إلى المجلس المحلي للمدينة.

نتيجة انتقادي للوضع، وبالأخص ما يتعلق بمصير المدينة وجدوى المعركة الدفاعية التي استمرت قرابة أربع سنوات في ظل حصار لا يعرف الرحمة، تعرضت للكثير من الانتقادات، وأحياناً التشويه؛ وكانت أبرز الصور المشوهة التي تُبثّ عني مصدرها قائد الكتيبة التي كنت مقاتلاً فيها، ثم تركتها بعد مشكلات تتعلق بسوء تصرف قياداتها، وعدم وضوح الرؤية أمامنا كمقاتلين في مدينة وجدت نفسها غارقة في حصار خانق، معزولة عن العالم الخارجي دون العمل على حل واضح، أو تقدم باتجاه العاصمة التي تتاخمها داريا، أو حتى التراجع نحو الخلف حيث الحشود الكبيرة لمقاتلي خان الشيح ودرعا والقنيطرة. يقول أحد الأصدقاء الذي كان شاهداً على ما حدث "لقد خدمك هذا القائد خدمة كبيرة في ترويج صورة سلبية عنك كطالب سلطة وساعٍ للفتنة".

وفي معضمية الشام، وقبل حلول رمضان 2013، تعرّض علاء عرنوس للسجن من قبل الثوار، الذين شكْوا بأنه عميل لإحدى المخابرات الدولية. أطلق سراح (عرنوس) الصحفي الحمصي، الذي طالما اشتكى من الشللية الضيقة التي كانت عنوان تلك المرحلة في داريا والمعضمية، وذلك بعد فشل "مكتب الأمن" في إثبات أي دليل على التهمة. أما أبو الفاتح الداراني، كما يدعو نفسه على فيسبوك، فقد تعرض لانتقادات لاذعة من قبل العشرات، سواء على صفحات الفضاء الأزرق، أو في المجالس الخاصة للقيادات وحتى المقاتلين.