هل تنجح الثورات في تحقيق شعاراتها... أم أنها تنجح في إحداث التغيير فقط؟؟

تتخذ الثورات دوماً أقصى درجات التطرّف في طرحها وخطابها وطريقة تعبيرها عن مطالبها وطموحاتها، وتطرح سقفاً مرتفعاً جداً عما هو في الواقع. وفي غالب الأحيان تفشل الأنظمة التي قامت عليها الثورات في تلبية مطالبها، لأنها تطالب أصلا بالتغيير الجذريّ الشامل لكلّ ما قام عليه مجتمع ما قبل الثورة من عاداتٍ وتقاليد ونظامٍ سياسيٍّ واقتصاديّ، ونقله إلى واقعٍ جديدٍ بكليته.

وعلى الرغم من أن الشعارات والمطالب التي تطرحها الثورات تكون موحّدةً، كما طرحت الثورة السورية (حرية، كرامة، مواطنة، عدالة..) مثلاً، ولكن الدوافع التي تقف خلف تلك الشعارات تختلف من ثائرٍ إلى آخر. فقد نجد بعضاً ممن انطلقوا في نضالهم من دوافع شخصيةٍ بحتة، ومنهم من دفعته قضايا اقتصاديةٌ أو انتقاميةٌ أو اجتماعيةٌ مختلفة، ومنهم من اندفع بدافع تحقيق تلك الشعارات فقط.

إن تنوّع الدوافع التي تقف خلف الثورة يقود مجاميع (الثوّار) إلى البحث عن تفاسير وترجماتٍ مختلفةٍ لتلك الشعارات التي رفعتها الثورة في بدايتها، والتي لم تقم النخبة التي أطلقتها بتعريفها بشكلٍ واضحٍ ودقيقٍ للمجتمع. فمنهم من يعتقد أنه لا يمكن للعدالة أن تتحقق إلا من خلال نظام حكمٍ إسلاميٍّ شموليٍّ، ومنهم من يعتبر أن كلّ تلك الشعارات لا يمكن تحقيقها إلا من خلال إقامة نظامٍ على أسس الديموقراطية بدل النظام الحاليّ، وغيرها من التفاسير المختلفة لهذه الشعارات التي يجمع عليها كلّ الثائرين من حيث المبدأ، والتي لسنا بصدد تعدادها.

وربما من أهمّ ما يمكن أن نلحظه في هذا السياق أيضاً، من خلال تجربةٍ دامت أكثر من أربع سنواتٍ لشعبٍ بدأ بثورةٍ سلميةٍ بيضاء ووصل به المطاف اليوم إلى أقسى درجات العنف المسلح؛ هو أن الدوافع المختلفة لمجاميع الناس التي دفعتهم إلى التمرّد، وتعدّد التفاسير، والفهم الكيفيّ غير المبنيّ على أسسٍ عقلانيةٍ للشعارات الرئيسية التي أفرزها تمرّدهم أو، بالأحرى، غياب فهمٍ وتعريفٍ واضحٍ وجامعٍ لتلك الشعارات؛ هذه الأسباب من الممكن جداً أن لا يظهر أثرها بشكلٍ واضحٍ كمشكلةٍ رئيسيةٍ من مشاكل التمرّد –الحراك الثوريّ- يجب معالجتها، ولكنها تظهر كمشكلةٍ كبرى في حالات العنف المسلح المتزايد الدرجات، ويبدأ الخطاب الثوري بالتشظي بالتالي، منقاداً نحو دوافعه الأصلية وإلى التفسيرات الحقيقية والكيفية غير المنضبطة بأطرٍ عقلانيةٍ، والمتمترسة خلف الشعارات التي طرحتها الثورة ونادت بها في الظاهر.

فيصبح القتل والتخريب والعنف المفرط وغير المبرّر، وتعطيل عجلة المجتمع بشكلٍ جنونيٍّ، أموراً مبرّرةً بتفاهاتٍ وتعليلاتٍ مستمدةٍ أصلاً من دوافع عميقةٍ مستترةٍ خلف تلك الشعارات السامية التي سيكون الطامحون الفعليون والوحيدون لها هم عامة الشعب الذين تطحنهم رحى العنف والجنون.

وعندما تصل الثورات إلى هذه المرحلة، كما وصلت الثورة السورية، يتحوّل الصراع (الحراك الثوريّ)، بجزءٍ كبيرٍ منه، إلى نزاعٍ على السلطة والحكم فقط، وبشكلٍ مجرّدٍ عن أيّ قيم، ودون الالتفات كثيراً إلى مدى ما تحقق من تلك الشعارات التي انطلقت بها الثورة. وهنا سيصبح الأمر الوحيد المتاح والممكن هو البحث عن تسوياتٍ بين الأطراف المتصارعة لإيقاف هذا النزيف المستمرّ، والذي لن يسمح لأحد الأطراف بالعودة إلى الخلف والتراجع، ليتحقق جزءٌ –ولو بشكلٍ ظاهريٍّ– من التغيير الذي طالبت به الثورة، ويُحافَظ جزئياً –أيضاً ولو بشكلٍ ظاهريٍّ– على ما تبقى من كبرياء السلطة السابقة. وكلّ ذلك وفقاً لمصالح وتوافقات مدراء الصراع الإقليميين والدوليين، على حساب الشعارات والقيم التي نادت بها المجاميع الثائرة بمختلف شرائحها وأطيافها.

وبالتالي، من الممكن جداً أن نقول إن الثورات تنجح دوماً، وهذا حتميٌّ، ولكن لا يشترط أبداً أن تحقق الشعارات التي أطلقتها، وإنما هي تقوم بتحقيق التغيير الجذريّ في المجتمع  فقط. لأن من المؤكد أن المجتمع الذي قامت فيه الثورة لن يعود، بأيّ حالٍ من الأحوال، إلى ما كان عليه قبلها. ولكن ليس بالضرورة أبداً أن يحصل التغيير وفقاً للشعارات التي أطلقتها تلك الثورة.