عدسة كرم | خاص عين المدينة
"تعذّب السوريون جميعهم، رجالاً ونساءً، خلال العامين الماضيين، لكن المرأة تعذّبت أكثر". قالت هدى، المعلمة الثلاثينية التي مر عام تقريباً على نزوحها من بيتها في حي الجبيلة بدير الزور إلى الميادين ثم الرقة ثم إلى الميادين مرة أخرى. وتفكر الآن بالنزوح إلى تركيا، بعد أن عجزت عن تأمين أي فرصة عمل تعيلها مع أطفالها الثلاثة، وبعد أن غالبت أملها بالإفراج عن زوجها المعتقل منذ ثمانية أشهر ولم تعرف عنه شيئاً منذ ذلك التاريخ. وبحديث متقطع وغير منتظم تتابع هدى كلامها حول معاناة الأمهات:
مع براميل الموت
"لا تخاف الام كما يخاف الآخرون، ولا تقلق كما يقلقون. فهي تعيش الهواجس والرعب والخوف أضعافاً مضاعفة بقدر عدد أفراد أسرتها، وتجوع وتبرد وتتألم عنهم جميعاً". تصمت قليلاً وهي تتذكر قصة قصيرة جداً كانت شاهدة عليها كما تقول: "في تشرين الثاني، وهنا في الميادين، كانت طائرات بشار تغير يومياً على المدينة. وفي إحدى هذه الغارات صادف وجودي مع ابنتي هذه في الشارع قريباً من منطقة الكراج. كان الوقت عصراً والشارع خالياً إلا مني ومن امرأة مع ولديها. كانت هي الأخرى تمشي بسرعة وهي تنظر إلى أعلى نحو المروحية التي تحوم فوقنا. وفي اللحظة التي توقفت فيها المروحية في السماء لذت إلى الحائط. وعندما رمت برميلاً، جثوت على ركبتي وحضنت ابنتي وأنا أنظر إلى البرميل وهو يهبط نحونا. وقبل أن أغمض عيني، تشابكت نظراتي بنظرات المرأة التي حضنت ولديها وركعت فوقهما لتحميهما من الموت النازل من السماء. رأيت في نظرتها الخاطفة تلك، كل العجز وكل الرعب والخوف والاستسلام. وكذلك كان التوسل أن يحمي الله ولديها. وبعد أن سمعتُ صوت الانفجار الفظيع، أدركتُ أننا نجونا، فقد كان موقع الانفجار في شارع آخر موازٍ لشارعنا. كانت المرأة ما
تزال جاثية فوق ولديها. صحتُ: "قومي.. الحمد لله عالسلامة"... صحتُ مرة أخرى: "سقط بالشارع الثاني. الحمد لله ما بي شي". رفعت المرأة رأسها ببطء فقلت لها: "لا تخافين. ما بيكم شي. الحمد لله عالسلامة". فنهضت ونهض طفلاها. كانت الدموع تملأ عيون الثلاثة. بعد دقائق الرعب، كان وجه المرأة شاحباً جداً. قالت بصوتٍ لاهثٍ ولهجةٍ متعثرةٍ: "مي..... أريد أشرّب هالصغار مي". وشرب الصغار يومها، وشربت أنا، وشربت ابنتي، بعد أن أحضر أهل الخير لنا ماءً. وما زلنا نشرب ونأكل من أهل الخير. لقد أصبحنا شحاذين تقريباً".
تعلّق هدى، وهي تضغط بأصابعها على ذراع صغرى بناتها، ثم تنتقل للحديث عن موضوع آخر،عن بيتها المؤلف من ثلاث غرف، والذي اشترته مع زوجها بعد كدح سنوات طويلة. وعن الأسرّة المستقلة لأطفالها، والألعاب الكثيرة، والإضافة السنوية التي لا بد منها لأثاث المنزل. وعن الحي، حي الجبيلة الواقع في جحيم القصف والنيران التي أحرقت كل شيء في البيت، كما أنبأتها آخر الأخبار الواصلة من هناك. وبشيء من المواساة الصادقة للذات تؤكد أن لا شيء مهم إلا سلامة الاولاد، وصحتهم. تضيف هدى: "كنت أقول وتعليمهم. ابنتي الكبرى في الصف الخامس. كانت متفوقة والأولى على صفها. وتحرص على كتابة الوظائف وحفظ الدروس. وابنتي الثانية مجدّة هي الأخرى.
وحتى هذه الصغيرة كانت ذكية جداً تقلد أختيها في الكتابة واقتناء الحقائب والأقلام والدفاتر. حاولت منذ فترة أن أبدأ بإعطاء البنتين بعض دروس القراءة.
لم أجد أي اهتمام منهما. ولاحظت انخفاضاً في قدرتهما على التركيز والحفظ والتذكر. أما الصغيرة فقد تراجعت رغبتها باللعب، وأصبحت تنام كثيراً وتبكي لوحدها بلا أي سبب. وتبكي ابنتي الكبرى عندما تسمع أي جلبة أو صوت مرتفع. وتتبول مرات دون إرادة منها كلما سمعت صوت انفجار أو أصوات إطلاق الرصاص". "لا أدري.. هل سنبقى أحياءً ونعود إلى منزلنا؟ هل يطلق المجرمون سراح زوجي؟ وهل نستطيع العيش بشكل طبيعي من جديد؟".