الأمومة شعورٌ تُحسد عليه كل امرأةٍ امتلكته، من قبل النساء اللواتي لم يُكتب لهنّ أن يكنّ أمهات. ما الذي يمكن أن يدفع امرأةً إلى التفريط فيه أو التنازل عنه طواعيةً، في مجتمعٍ تعطي فيه الأسرة لقضية للإنجاب وتكاثر النسل أهميةً كبيرةً لا تتناسب، في كثيرٍ من الأحيان، مع الظرف الاقتصاديّ لها؟
تطـــــوّرٌ خــــطيرٌ حـــــــدث خلال السنتين الأخيرتين في محافظة دير الزور، يتعلق بالارتفاع الحادّ في معدّلات التلوّث، وبالتالي الارتفاع الكبير جداً في نسبة الإصابة بأمراضٍ مرتبطةٍ به، كالسرطان والأمراض الصدرية. جعل ارتفاع هذه النسبة العديد من الأسر تعيد النظر في مسألة الإنجاب والإتيان بطفلٍ جديدٍ إلى عالمٍ لا يأبه له.
عن هذه الظاهرة التقت "عين المدينة" بالطبيبة النسائية نور الناصر، في منطقة العشارة، فقالت: بالإضافة إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي جعلت الكثير من الأسر تؤجل فكرة الإنجاب خلال السنوات الماضية، إلا أن الذي تفاقم في الآونة الأخيرة، وتحوّل إلى سببٍ واضحٍ لانخفاض نسبة المواليد؛ هو الخوف من التشوّهات والأمراض التي تصيب كثيراً من المواليد بسبب التلوّث الشديد في المحافظة.
بدأت هذه الظاهرة بالانتشار بعد أن ظهرت حالات تشوهٍ وإصاباتٌ لا تعدّ بأمراضٍ مثل سرطان الدم وأمراض الربو والحساسية، مما يجعل المرأة الحامل، وطوال مدّة الحمل، تعيش حالةً من الرعب تتعلق بالحالة الطبية للجنين. وقد يدفع هذا ببعضهنّ إلى زيارة الطبيب بشكلٍ مبالغٍ فيه للاطمئنان على سلامة الحمل، بالرغم من أن الطبيب لا يمكن أن يقدم لهنّ أيّ شيءٍ في هذه المرحلة. وهناك حالاتٌ كثيرةٌ تفكر فيها سيداتٌ حوامل بالإجهاض خوفاً من معاناةٍ قد تولد مع أطفالهنّ. وقد يكون هذا الأمر في مرحلةٍ من الحمل خطراً على صحة الأم نفسها، خاصةً إن تمّت هذه العملية بالاستعانة بغير المختصين.
وحــــول تــــوزّع هذه الظاهـــــرة وانتشارها أضافت: تتفاوت هذه الظاهرة بالطبع بين الريف والمدينة، بحسب نسب التلوث من جهة، وبحسب حالة الوعي المتوفرة لدى الوالدين من جهةٍ ثانية. ففي مدينةٍ مثل الميادين أو البوكمال تجدها بشكلٍ واضح، وتعيش من خلالها الأمّهات معاناةً كبيرة، لأن نسب التلوث مرتفعة، وبسبب وجود حالةٍ من الوعي بمخاطرها على الأجنة والمواليد الجدد. وأثّر هذا بشكلٍ كبير، فأدّى إلى انخفاضٍ ملحوظٍ في نسب مواليد هذا العام. أما في مدينة دير الزور فتنحسر هذه الظاهرة، بسبب انخفاض نسب التلوّث مقارنةً بغيرها. كما تنحسر نوعاً ما في بعض الأرياف التي فيها نسبة تعليمٍ منخفضة، لعدم الربط بين التلوّث والأمراض من جهة، ولحساسية مسألة الإنجاب من جهةٍ ثانية، حيث يتم التعامل مع تكثير النسل على أنه المهمة الأساسية للمرأة، بغضّ النظر عن أية اعتباراتٍ أخرى.
بسبب الســــــــرطان وأدت حـلمها بطفلٍ ثالث
وتحدثت السيدة صافية العلي، وهي قابلةٌ قانونية، عن هذه الظاهرة. وعرضتها بصفتها أماً وبصفتها عاملةً في الحقل الطبيّ، فقالت: أعمل في إحدى المشافي الخاصّة. يزورنا في اليوم الواحد عددٌ كبيرٌ جداً من الأطفال الذين يعانون من أمراضٍ مرتبطةٍ بالتلوّث، بعضها لم نكن نعرفه من قبل. مؤلمٌ جداً أن ترى طفلاً عمره أيامٌ قليلةٌ لديه مشاكل في التنفس، أو طفلاً عمره أشهرٌ قليلةٌ في الحياة وعليه أن يغادرها لأنه مصابٌ بمرض السرطان. هذا الأمر يجعلني أعيد حساباتي ألف مرةٍ قبل التفكير في إنجاب طفلٍ ثالثٍ قد يأتي إلى الحياة ليعاني وأعاني معه الأمرّين،
وقد أخسره بعد ذلك إن أصابه السرطان مثلاً. وهو داءٌ استشرى بشكلٍ كبيرٍ بين الأطفال بصورةٍ خاصة، حتى أننا صرنا نتعامل مع مريض السرطان على أنه شهيدٌ من شهداء الثورة. لا أريد أن أنجب طفلاً يكون محكوماً بالموت قبل ولادته.