موظّفو «الأزمة» السورية مـن أيـن تـؤكـل الـكـتـف؟!

ينسحبون بهدوءٍ من وظائفهم ومكاتبهم في دمشق وسواها، أو في المَهاجر. يجدون الوقت الكافي لترتيب ربطات عنقهم التي ستستبدل خلال العام القادم في عنتاب أو إسطنبول وما قد يتيسّر من أسفارٍ هنا وهناك. لن يهملوا شيئاً، ولكن أهمّ ما يجب أن تحمله حقيبة اليد هو السيرة الذاتية والشهادات وسجلات الأعمال. إلى من يهمّه الأمر... الخبراء قادمون!

سيبدو «شباب الثورة» (انظر المقال الخاصّ بهم في العدد السابق) مجرّد متسكّعين بلهاء وباحثين عن «الخرجيّات» أمام من تمرّسوا طويلاً في أكل الأكتاف. ولكن، ماذا فعل هؤلاء الشباب؟!! وماذا يملكون عدا الحماس؟ لقد اثبتوا أن «الشعب السوريّ حيٌّ»... شكراً! ولكن المرحلة الآن مرحلة بناء، لا مرحلة مظاهراتٍ وخطاباتٍ وتشنّجٍ وقلة بصيرة! فليقنع الشبّان بتقاعدٍ مبكرٍ على صفحات الفايسبوك وفي بارات المنافي الإقليمية ودول اللجوء الأوربيّ... فليكتبوا الشعر... ليتفرّغوا لصناعة الأفلام. أما بناء «المؤسّسات» فله رجاله؛ خبراء التخطيط والهيكلة؛ رؤساء المكاتب ومهندسوها؛ المدراء التنفيذيون؛ مديرو الموارد البشرية والتطوير والتدريب، خبراء التسويق والإعلام والمجتمع المدنيّ والأنظمة الداخلية والسلم الأهليّ والعدالة الانتقالية ومهارات التفاوض... إلخ؛ إلخ!
وفي ثورةٍ كثُر نصّابوها، والنصّابون عليها، هناك مكانٌ للجميع؛ موظّفون بعثيون أو شبه بعثيين، استغلوا جهل «رموز» المعارضة -الذين أتوا من خارج البنية الحكومية السورية، بل من خارج البلاد في مرّاتٍ كثيرةٍ- ببعض التشكيلات الإدارية والمكتبية السخيفة في سوريا الأسد؛ فقدّموا أنفسهم كـ«رجال دولةٍ» وحكمٍ، يشرحون لمن حولهم –بهدوءٍ ونفاد صبرٍ- الفرق بين المحاسب وأمين الصندوق وآمر الصرف. و«تكنوقراط» لملموا على عجلٍ ما حصّلوه من تجارب غير مكتملةٍ في هذه المنظمة الدولية أو تلك، وقدِموا لإنقاذ البلاد والعباد، وفي جعبتهم بضع وصفاتٍ غير ناضجةٍ، يأسفون أشدّ الأسف عند فشل تطبيقها، وينحون باللائمة على «السوريين»! وأخيراً، محتالو «بسطاتٍ» للتدريب وتنمية الموارد البشرية، بشهاداتٍ غامضةٍ من معاهد غير معروفةٍ في دبيّ.
يتغلغل هؤلاء عادةً في المفاصل المتوسّطة، مؤلفين شبكةً متساندةً وغير منظورةٍ، رغم عدم التعارف السابق، فهم يعرفون بعضهم بالرائحة. أصحاب «الثقافة الغربية» منهم يجدون طريقهم بسهولةٍ إلى المنظمات الدولية المعنية بالشأن السوريّ في عنتاب وبيروت، مستقرّين بارتياحٍ على المقاعد الوثيرة التي خصّصتها هذه المؤسّسات للخبراء المحليين، بسبب حاجز اللغة وفوارق الثقافة. أما أبناء دولة البعث فيركّزون سهام طموحاتهم على الحكومة المؤقتة وما يشبهها، فهي المؤسّسات «الوطنيّة» التي يجب أن يزوّدوها بخبراتهم، في كتابة التقارير والفساد والمحسوبيات.
وبخلاف من فسَدت روحه من شباب الثورة، فصار باحثاً أرعن عن المال بقصد الاستهلاك والتفاخر وعيش ما كان يشاهده في الأفلام الأمريكية من حياة الشباب؛ يسلك «خبراؤنا» مسالك أحكم تجاه الدخول العالية التي يحصّلونها. فقد أنبأتهم غريزة الكسب النامية أن لا ضمانات في هذا الوضع المضطرب والمتقلّب، وأن لا أحد يعلم بالموعد المفاجئ لـ«تسكير الحنفية» القطرية أو السعودية، أو لقرارٍ مباغتٍ من المكتب الرئيسيّ للمنظمة بتصفية أعمالها أو تقليص عدد موظفيها. ولذلك كان لا بدّ من «الادّخار»!
العمل في مجال الإغاثة جيدٌ، فهو يؤمّن لك ربحاً «مشروعاً» لتعيش، وتدّخر. أو فلتنظّم كشوفاتٍ بأسماء الشهداء والمعتقلين والمفقودين والمصابين، قدّمها للمنظمات الحقوقية، وادّخر. شارك في الندوات عن تشرّد الأطفال وانقطاعهم عن الدراسة، وأسهم فيها بما لديك من إحصاءاتٍ قديمةٍ حملتها من دمشق، فهذا وقت تحويلها إلى مدّخرات. لا ضير في كلّ ذلك، فخبراؤنا في حقيقة الموقف السياسيّ رماديون، لا تعنيهم الثورة وقد يكونون إلى النظام أقرب، فهناك منبع ما يغرمون به من بيروقراطيةٍ وإخصاء. وعند التبسّط في أحاديث الأمسيات على العشاء، بعد يومٍ طويلٍ من تداول الأكتاف وبناء العلاقات وقراءة ما بين السطور وترصّد الفرص البازغة؛ ستفلت منهم كلماتٌ وعلاماتٌ تدلّ على الاستياء من الثورة برمّتها، بل الشماتة بها حين تقضمها أنياب داعش الدموية. فأبناء «الدولة» سيظلون عبيد أية «دولةٍ» وعبّادها، وسيفضّلونها على الدوام على أيّ اندفاعٍ حرّ يخرّب المكتب!