من تدمر إلى هارفارد

قصتي هذه واحدةٌ من قصص آلاف السجناء عديمي الرأي والذين اعتقلوا على يد عديمي الضمير في أيّ بلدٍ لا يقيم لحياة الفرد قيمةً ومنها سورية. لكنها ستضفي جوانب أخرى موثقةً بالصور وبتواريخ بذلت جهداً خاصّاً ألا أنساها.

بهذه الكلمات يفتتح د. البراء السرّاج كتابه المريع عن تجربته في سجن تدمر، والتي دامت تسع سنواتٍ عجاف، سجّل فيها في ذاكرته أسماءً وأياماً وتواريخ شهدت بعض ذرا حفلات الإعدام الجماعيّ أو التعذيب الوحشيّ، بشكلٍ صار معه هذا الكتاب دليلاً لحكايات ومصائر معتقلين، فضلاً عن رسم صورةٍ دقيقةٍ لوقائع الحياة اليومية في واحدٍ من أعتى سجون العالم.
وكما صار مـــــــعروفاً من الشهادات، تبدأ سيرة السجين في تدمر بحفل الاستقبال بالكرابيج، التي وصلت ذات مرةٍ إلى رقمٍ قياسيٍّ هو ألف كرباج، عندما تمّ استقبال من استدرجتهم مخابرات النظام من أفراد تنظيم «الطليعة المقاتلة للإخوان المسلمين» من الخارج. ويستمرّ التعذيب مع كلّ تفقد، ومع كلّ حركةٍ وسكنة. ولا غرابة إن استبشر السجناء عند صدور الأوامر بإيقاف خروجهم إلى الحمّامات أو الحلاقة خارج المهاجع، فمع كلّ حركةٍ يصبحون عرضةً لمزاج ووحشية السجانين وأعوانهم من المجرمين القضائيين الموثوقين، والذي قد يؤدّي إلى موت سجينٍ أو أكثر دون مساءلة.
يغلب على نزلاء هذا السجن أن يكونوا من الإسلاميين، مع وجود بعثيين عراقيين وشيوعيين، ولبنانيين تمّ تحويل 1500 منهم إلى تدمر خلال الربع الأخير من عام 1987 فقط! ولا يسمح لهؤلاء السجناء بالاختلاط، بل يجب عليهم وضع الطماشات على أعينهم عند نقلهم من مهجعٍ إلى آخر، إلى أن تمّ التعميم، في مطلع عام 1988، بوجوب وضع الطماشات أثناء النوم أيضاً! وفي صيف العام نفسه توفي 100 سجينٍ بسبب سوء التغذية. أما «أبو الشيّاب»، وهو سجانٌ برتبة رقيب، فقد كان مسؤولاً لوحده عن مقتل 50 – 100 سجينٍ من كبار السنّ واضحي الشيب، الذين كان يستهدفهم بشكلٍ خاصّ. يربّت أولاً على كتف الضحية بلطف، بينما السجناء جلوسٌ على أرض الباحة مغمضي الأعين، والأيدي معقودةٌ إلى الخلف، ثم يأمره بالاستلقاء بتأنٍّ على ظهره. وفجأة، يقفز «أبو الشيّاب» ضخم الجثة على بطن السجين الذي تتمزق أحشاؤه، فإما أن يقضي على الفور أو يساق إلى المشفى العسكريّ.
بعد هذه السنوات في تدمر، والتي عُرض فيها السرّاج على «محكمةٍ» دامت دقيقةً واحدة فقط، تمّ نقله إلى سجن صيدنايا حيث قضى أقلّ من ثلاث سنوات، يتخللها لقاءٌ واحدٌ كلّ عامٍ تجريه لجنةٌ من كبار ضباط المخابرات مع السجناء لتقرّر من يستحق إخلاء السبيل منهم. وقد قرّرت هذه اللجنة إخلاء سبيله عام 1995، ليقضي بعدها عاماً تحت الرقابة الدورية لأجهزة الأمن، قبل أن يسمحوا له بالمغادرة إلى أمريكا لرؤية عائلته. وهناك سيبدأ حياةً جديدةً من الصفر، بدءاً بالسنة الجامعية الأولى وحتى حصوله على شهادة الدكتوراه.

ظهر الكتاب على شبكة الإنترنت في صيف عام 2011.