للفنان وسام الجزايري
فتحت الثورة السورية الباب لظهور كتبٍ تسلّط الضوء على تاريخ وبنية نظام الأسدين، من مؤلفاتٍ كانت حبيسة الأدراج، ومترجماتٍ كانت لا تجد من يجرؤ على نقلها إلى العربية أو من ينشرها، ومذكراتٍ وجد أصحابها أن الوقت قد حان ليفصحوا عنها. وفي حين جاءت معظم هذه الشهادات ممن كانوا ضحايا لقمع النظام، فإن كتاب «أيامٌ منسيّةٌ مع العصابة الأسدية»، الذي ظهر بشكلٍ إلكترونيٍّ فقط، أواخر 2011، هو شهادة أحد من قادتهم الأقدار إلى أن يكونوا جزءاً من آلة القمع هذه.
فقد اضطرّت الظروف صاحب هذه القصّة إلى الالتحاق بالخدمة الإلزامية في الجيش الأسديّ، بعد تعثّرٍ مفاجئٍ لسعيه إلى السفر إلى خارج البلاد للدراسة الجامعية. ونتيجة مشاعر الخوف والقلق والإحباط التي ظهرت على هذا الشاب الحمصيّ المتنعّم، أراد أحد أقربائه، وهو من كبار تجّار المدينة، أن يساعده عبر علاقاته مع المسؤولين، بأن تكون خدمته الإلزامية في مدينته نفسها، وهو ما كان مطلب أيٍّ من الملتحقين بجيش الأسد. ولكن هذه الواسطة بالذات هي ما فتح باب الحكاية، إذ تمّ فرز الشابّ، دون إرادةٍ ولا توقعٍ منه، لصالح جهاز المخابرات العسكرية. كان ذلك في أوائل الثمانينيات، في الأيام الأخيرة لقمع النظام لتمرّد الإسلاميين ضده. وكان الانتساب إلى أجهزة الأمن مثار كثيرٍ من الشكوك والاحتقار الداخليّ لدى عموم السوريين.
«إنته مين واسطتك؟ من أيّ ضيعة إنت؟» كان هذان السؤالان دائمين، منذ نُقل هذا المجنّد من دورة الأغرار إلى مدرسة المخابرات العسكرية قرب دمشق، وحتى فرزه لفرع هذا الجهاز في حمص. وكانت واسطته، كما اكتشف إثر سؤال قريبه، هي العقيد غازي كنعان، مدير فرع المخابرات العسكرية بحمص، مما كان يدفع إلى التقدير في هذه الأوساط. أما كون المتوسَّط له سنيّاً من حمص، فكان يثير تساؤلاتٍ مكتومة، رغم أن من هم في مثل وضعه لا يسلَّمون مواقع تعدّ حساسةً، كالتحقيق ومخزن السلاح ومحطة اللاسلكي والأرشيف.
يروي الكاتب العديد من القصص عن جرائم الجهاز بحقّ الناس، من ابتزازٍ وإهانةٍ وتعذيبٍ وحشيٍّ يصل إلى حدّ الموت أحياناً، مما هو معروفٌ عن المخابرات الأسدية. ولكن اللافت في روايته هو تسليط الضوء على حوادث تفصيليةٍ لطبيعة الصراع بين أجهزة الأمن المختلفة، والتنافس الضاري بينها على نيل رضا حافظ الأسد، وإبراز من هو الأجدر بالحفاظ على سلطته من المتآمرين. فقد وصل هذا التنافس إلى درجة أن جهاز الأمن العسكريّ بحمص قد بثّ مخبرين له في أجهزة الأمن الأخرى! ولأنه كان يصرّ على تصدّر مشهد القمع، فقد اصطدمت دورياته أكثر من مرّةٍ مع دورياتٍ تابعةٍ لجهاز المخابرات الجوية، أثناء تعقب الجهتين بعض المطلوبين. ولم يتردّد عناصر الأمن العسكريّ في استخدام السلاح لخطف المطلوب من بين أيدي زملائهم المفترضين. وتحت قيادة علي دوبا الوحشية الشهيرة، أحسّ عناصر هذا الجهاز أن لهم اليد الطولى في البلاد، فقاموا – بحسب مشاهدات المؤلف في حمص – بمهاجمة فرع أمن الدولة إثر اشتباكٍ بين دوريتين للطرفين، وإحضار عناصر من هذا الفرع، بينهم ضابطٌ برتبة ملازم، إلى فرع المخابرات العسكرية، وضربهم وإذلالهم. وكان عناصر الأمن العسكريّ ينظرون باحتقارٍ شديدٍ إلى عناصر الأمن السياسيّ، ولا يتردّدون في ضربهم دون سببٍ وهم داخل سياراتهم في شوارع حمص، ولذلك كان عناصر الجهاز الأخير يتجنبون المرور أمام دوريات المخابرات العسكرية.
وليس هذا فحسب، بل تتنافس فروع هذا الجهاز نفسه مع بعضها، ليثبت رئيس كلّ فرعٍ أمام قيادته أحقيته وتقصير الآخر. فقد قام عناصر المخابرات العسكرية بحمص بمهامّ عديدةٍ لاعتقال مطلوبين في محافظاتٍ أخرى، بدون علم فروع المخابرات العسكرية في تلك المدن إطلاقاً، وبسياراتٍ تحمل لوحاتٍ مدنيةٍ مزوّرة، كما حصل في حادثةٍ شارك فيها الشاهد في حلب.
أما عناصر «سرايا الدفاع» التابعة لرفعت الأسد فكانوا هم من يبادر إلى التحرّش بعناصر المخابرات العسكرية واستفزازهم. حتى وقع الخلاف بين قائدهم وشقيقه الرئيس، وكُلّف علي دوبا وجهازه بمهمة تفكيك قوّات السرايا، فصار من المألوف رؤية ضباطها الشرسين، وقد نُزعت الرتب عن لباسهم المبرقع باللون الأحمر، محتجزين لدى المخابرات العسكرية، مقيّدين ومرميين على الأرض، ويُضربون بوحشـــية، حالهم كحال معتقلي
الإخوان المسلمين!