من مقطع فيديو مسرّب عن المجزرة
شهادات ناجين من
مجزرة حيّي القصور والجورة
اقتحمت فرق الموت، متمثلة بقوات الحرس الجمهوري، حي الجورة من جهة الغرب، ونفذت إعداماتٍ ميدانية رهيبة، كانت حصيلتها بحسب الناشطين أكثر من 400 شهيدٍ يتوزعون بين الجورة وحي القصور المجاور. لتنقطع بذلك سلالات عائلات كاملة في بعض الحالات، وليختفي بهذه المذبحة أيضاً أكثر من ألف مفقودٍ لا يعرف عن مصيرهم أحد.
مذبحةٌ مروعةٌ وقعت قبل عامٍ من الآن في الجزء الغربي من مدينة دير الزور، والواقع تحت سيطرة النظام، وبالتحديد في كل من حيي الجورة والقصور. وابتداءً من حزيران في العام الفائت قرر الجيش الحرّ الابتعاد عن هذين الحيين وذلك لجعلهما منطقة آمنة، خاصة مع اكتظاظهما بالنازحين من الأحياء المحررة. إلا أن هذا لم يشفع للمدنيين هناك في الحملة الهستيرية للقوات القادمة لسحق الثورة في المدينة، بعد ثلاثة أشهرٍ من عجز القوات الأسدية المنتشرة من قبل عن إعادة احتلال الأحياء المحررة. وعلى رأس القوات المستقدمة كان اللواء 105 حرس جمهوري، بقيادة كلٍ من عصام زهر الدين وعلي خزام، ابن القرداحة والضابط السفاح النجم في أوساط الشبيحة، والذي أقسم أنه سيجتاح المحافظة كلها وصولاً إلى البوكمال ـ ليشرب المتة فيها كما قال ـ لكنه، وبعد يومٍ واحدٍ، (بتاريخ 26/ 9/ 2012) أصيب إصابةً قاتلةً في أحد الاشتباكات، ليلقى حتفه في مشفى 601 العسكري بدمشق، بعد ذلك بشهر. وترجّح بعض الآراء أن المجزرة كانت انتقاماً لإصابته.
"عين المدينة"، وفي الذكرى السنوية الأولى لهذه المذبحة، التقت ببعض الناجين منها، فكانت هذه الشهادات.
أبو بكر (من سكان حي الجورة):
في صباح 25 أيلول اقتحمت قوات النظام حي الجورة من ثلاثة محاور، إذ قامت بتقسيم المنطقة إلى ثلاثة قطاعاتٍ يفصل بينها شارع الجورة الرئيسي وشارع الوادي وشارع السجن.
بدأت العملية بقصف الحي بعدة قذائف، مما أدى إلى إصابة الكثيرين، ومنهم أحد جيراني الذي أصيب بشظية في ساقه. لم يكن بالإمكان إسعافه إلى المشافي، فالطرقات مغلقة بقناصات النظام، فأدخلناه إلى منزلنا. بعد ذلك رأيت من النافذة دباباتٍ في الشارع، ودخلت سيارات بيك آب
تحمل العشرات من عناصر الحرس الجمهوري، وكان بعضهم يحملون سيوفاً. انتابنا الرعب فأشرت إلى أسرتي أن نبتعد عن النافذة خوفاً من أن يرونا. بدأ تفتيش منزلنا بكسر الباب بطريقةٍ بربرية. كانت أعدادهم كبيرة. صاح بي ضابطٌ في المجموعة: "هاتوا الهويات بسرعة". بعد أن أخذوا الهويات طافوا في غرف المنزل فوجدوا جارنا المصاب الذي كنا قد ضمدنا جرحه بما لدينا من أسمال. ومن فضل الله لم يكن جرحه ينزف، ولذلك كان من الصعب التبين أنه مصاب. صاح الضابط: "مين هاد؟". بادرت بالإجابة: "هذا جارنا يا سيدي. من بلشوا المسلحين يضربون دخل لعندنا ع البيت".
طلب منا الضابط الخروج من المنزل. كنت أنا وإخوتي الثلاثة وجارنا المصاب. صاح الضابط بأحد العناصر: "خذهم على ربهم". اقتادنا العنصر إلى مؤسسة الخضار بالقرب من جامع التوبة في شارع الوادي، حيث يُعدم الناس. وفي الطريق إلى هناك استوقفنا ضابطٌ برتبة أعلى وطلب منا أن نذهب معه لنرى ـ حسب قوله ـ ما فعلته قوات النظام بإحدى الجارات.. دخلنا منزلها لنجدها جثةً هامدةً وبجانبها حفيدها وزوج ابنتها، والدماء تملأ الأرض. طلب منا الضابط أن نجهّز أنفسنا للحديث إلى قناة الدنيا عن ما حدث، وطلب أن نقـــــول بأن العصابات المسلحة هي من قامت بهذا الفعل. بقينا ننتظر قرابة الساعة، وبعدها أذنوا لنا بالعودة.
ظافر (شاب من سكان حي الجورة شارع الوادي):
في الواحدة ظهراً دخلت مجموعة كبيرة من الشبيحة البناء الذي نقطن فيه. طرقوا الباب... دخلوا.. فتشوا... طلبوا من والدي أن يحضر لهم الماء فأحضره. شربوا وخرجوا من المنزل. وفي الحارة وجدوا سيارة تحمل نمرةً خليجيةً. سألوا عنها فأنبأهم الجيران أنها سيارة والدي، فعادوا إلينا بطريقةٍ همجيةٍ وصرخوا بوالدي أن ينزل وبدأوا التحقيق معه. والدي يعمل في السعودية، وكان في إجازة. وصل المدينة قبل الحملة بثلاثة أيام... فتشوا السيارة فلم يجدوا فيها شيئاً.
وبعدها اتهموه بأنه من داعمي الجيش الحر، وأنه يعمل لدى العرعور! شرح أبي لهم أنه يعمل في الخليج، وأنه يعود كل سنةٍ في إجازة. تفقد أحد العناصر السيارة التي كانت تخفي عبارة "عاش الشهيد فطيحي" التي كتبها أحد أبناء الحي على الجدار. فطيحي هو لقب أحد الشهداء، وقد قتلته قوات الأمن في إحدى المظاهرات السلمية. عندما قرأ العناصر هذه العبارة سألوا والدي: "مين فطيحي؟؟؟... وين فطيحي؟؟ بدك تطالعه هلق".
كان والدي يعرف منزل الشهيد، لكنه لم يشأ أن يدلّهم عليه، فكان يكتفي بالرد بأنه لا يعلم أي شيء. قاموا بتفتيش الحارة مجدداً، ولكنهم طلبوا البطاقات العائلية لكل السكان هذه المرة، وبحثوا فيها عن فطيحي، لكنهم لم يجدوه. عادوا إلى والدي ليطلبوا منه أن يرشدهم إلى مكان فطيحي، وهددوه بالقتل إن لم يفعـــــــــل. لم يكن أمام أبي سوى أن يأخذهم إلى مقبرة الشهداء في حديقة مسجد التوبة، وأشار لهم إلى أحد القبور وقال: "هذا فطيحي.. هذا قبره". صاح أحد الضباط بأبي: "عم تتمسخر علينا... خذوه". واقتادوا أبي إلى مؤسسة الخضار، وهناك أطلقوا النار عليه. وبالرغم من أن الرصاصة اخترقت وجنته وخرجت من عنقه، لكنها لم تقتله. ففي السابع والعشرين من أيلول، وكانت الحملة قد انتقلت إلى حي القصور، وكنت حبيس المنزل طوال هذين اليومين؛ خرج أحد باعة الخضروات ليقف في مكانه المعتاد بجانب المؤسسة، فسمع صوت أنينٍ قادمٍ من داخلها. تجمّعنا ودخلنا المؤسسة فوجدنا رجلاً منتفخاً لا يقوى على الكلام، ولا نستطيع تحديد ملامحه جيداً، فالدماء تملأ وجهه. لم يتعرف أحدٌ على هوية ذلك الرجل، ولكنني استطعت تمييزه من الساعة التي في يده. لقد كان والدي. أخرجناه إلى المنزل. كانت حالته حرجة. لم يكن أمامنا سوى المشفى العسكري. ذهبنا إلى هناك فأعطونا تقريراً طبياً بأن العصابات المسلحة قامت بضرب أبي، وأسعفناه إلى إحدى المشافي في مدينة الرقة. وبعد ثلاثة أشهر تماثل للشفاء.
الحاجة أم حسان:
زوجي إمام مسجد قباء. جاءنا إلى المنزل عشرات الوحوش. نعم، لم يكونوا بشراً، كانوا وحوشاً مخيفة. فتشوا المنزل وخرجوا، ونسي أحدهم هوية زوجي معه. خرج زوجي ليستعيد بطاقته الشخصية..... خرج ولم يعد. أعدموه رمياً بالرصاص، وتركوه مرمياً على قارعة الطريق.
محمد (من سكان منطقة الوادي):
لدينا منزلٌ عربيٌ كنا قد قسمناه بجدارٍ ليصبح منزلين. كنا نقيم في الأول وتركنا الآخر للإيجار. في الحادية عشرة من صباح الخامس والعشرين من أيلول ضربت إحدى الدبابات، الموجودة في نهايـــــة شارع الوادي، أحد الأبنية، فأصابت مجموعةً من الشباب. كانت إصاباتهم تتراوح بين المتوسطة والبليغة. لم يكن بالإمكان إخراجهم من الحي، فالمنطقة محاصرة. جاء بهم الجيران إلى منزلنا ـ القسم المؤجّر ـ كنا ننتظر ريثما يهدأ الوضع كي نأخذهم إلى المشفى، ولكن قوات الحرس الجمهوري اقتحمت حارتنا بعد نصف ساعة. دخلوا منزلنا والمنزل الآخر فعثروا على المصابين. جاء أحد الضباط إلينا وسأل: لمن هذا المنزل؟ فأنكرنا معرفتنا به. ذهب قليلاً وعاد من جديدٍ وقال: سوف نحرق المنزل.. إذا كانت لكم أشياء فيه فتعالوا خذوها. أجابت أمي بأننا لا نعرف لمن هذا المنزل. بعدها طلبوا منا الدخول وإغلاق الباب. شاهدتهم بأم عيني يرشّون المصابين بمادة حارقة على شكل بودرة بيضاء، وأضرموا النار فيهم. كانوا خمسة شبان. أصوات صراخهم واستغاثتهم لا تزال تتردد في أذني.
أم عمر (من سكان حي القصور):
نزحت أختي وابنها الوحيد ذو العاشرة إلى بيتي من منطقة الحسينية بعد أن تعرضت للقصف. وفي السادس والعشرين من أيلول توفيت حماتي فأرسل زوجي ابن أختي إلى مركز الهلال الأحمر لكي يحضر النقالة من أجل الدفن. وفي اليوم التالي أرسله لكي يعيدها. تأخر ابن اختي لأكثر من ساعة، فخرج زوجي ليبحث عنه. عند نزوله إلى الشارع كان الجيش قد وصل إلى الحارة. سألهم عن ابن أختي فصرخوا في وجهه واقتادوه إلى التحقيق ـ كما يدّعون ـ طلب منهم أن يعود إلى المنزل لإحضار بطاقته الشخصية. عاد يقتاده أحد العناصر، وكان كل شيءٍ في وجهه يقول: لن أرجع. بكيت بشدة. بعد ساعة أحضروا جثة ابن أختي مكبلاً. كان المشهد فظيعاً. رأسه مشطورٌ بسكين. وفي المساء، بعد أن انسحب الجنود، أحضر الجيران جثة زوجي.
ثائر (من سكان حي القصور):
دخلت مجموعاتٌ كبيرةٌ حارتنا وقامت بالتفتيش. بعد أن فرغوا من تفتيش منزلنا سمعت أحد العناصر يصرخ لجارنا أبو عمار: "تعال ولاااك". نزل أبو عمار. كنت أسمع ما يجري جيداً: "انبطح ع الأرض ولااااك". بعدها سمعت رشقة رصاص.... انسحبت قواتهم ليلاً لنجد جثة أبو عمار. كان ذنبه أنه نظر إليهم من الشرفة فقط.