- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
طوابير السوريين المتشابهة في ولاية كيليس التركية
يقف الطابور على قمة هرم تمثلات الثقافة والمدنية لدى السوريين، رغم تاريخهم السيء معه، والمستمر اليوم في دول اللجوء. وربما لهذا السبب بالذات، يحمل كل أحد منهم تصوراً لجذور مشكلة الطابور وحلاً لها.
تتدرج الحلول من الصرامة والبطش للدفع للانتظام فيه.. حتى الدعوات إلى الالتزام الأخلاقي الذاتي بالانتظام، وهذا ما يتداوله السوريون وهم منتظمون في الطابور أو خارجه، في تركيا أو غيرها من الدول، وفي ولاية كيليس أو غيرها من الولايات، لتشكل الأخيرة نموذجاً عن تلك (الأزمة السورية)، بكل ما فيها من فظاعة وامتهان وربما خسة في بعض الأحيان، وكيف يرى إليها المشاركون فيها بشكل أو بآخر، وكيف يفترضون أسباباً ويتوقعون حلولاً لها.
يتحوّل ليل السوريين في ولاية كيليس التركية إلى نهار، عند كل استحقاق تُقدمه واحدة من المنظمات الإنسانية، أو قرار يمسهم من الحكومة التركية، أو مساعدات شخصية تخصهم؛ تبدأ بعدها حملة من الانتقادات للفوضى الطابورية الحاصلة، والتي كثيراً ما تتحول إلى عراك بالأيدي أو تبادل للسباب والشتائم، تتناقلها وسائل التواصل الاجتماعي، لتنقسم الآراء حولها بين متعاطف مع الأوضاع الاقتصادية السيئة التي يعيشها السوريون، ورافض للطريقة "الفوضوية" والمشهد الذي "يسيء" لصورة السوري، سواء أمام "الأتراك" الذين يعبّرون عن امتعاضهم من "الجهل السوري، وغياب ثقافة الالتزام بالدور، والطوابير العشوائية"، والتي "يتداولها الأتراك على صفحاتهم لتصبح مثار سخرية في التعليق على المشاهد، أو الدعوة إلى طردهم بحجة عدم القدرة على الاندماج مع أولئك الفوضويون"، أو حتى أمام السوريين أنفسهم، والذين يرثون للحال التي وصلوا إليه، محملين المسؤولية لتلك المؤسسات في إيجاد حلول من شأنها "إيجاد حلول تنظيمية"، ليعيدها بعضهم "للعهود الطويلة من الفوضى والذل التي عاشوها سابقاً، في ظل انتشار المحسوبيات والواسطات والرشى".
يحمل أبو محمد (لاجئ سوري في كيليس) بيده قلماً أزرق اللون، ويرتدي عباءة (سميكة) ويلف رأسه بـ (شماخ)، بعد أن دخل الشتاء فجأة، وهو يوزع بـ "يد مرتجفة" أرقام الدور على أيدي الأهالي، الذين بدؤوا يتقاطرون على مراكز البريد التركي (PTT)، منذ ساعات الفجر الأولى، فأبو محمد "أول الواصلين" على حد قوله، "صرلي يومين ما طلعلي دور، اليوم جيت من الساعة 12 بالليل".
يأمل الرجل أن يكون أول الداخلين إلى المركز لاستلام مساعدة مالية تعينه على قضاء بعض احتياجاته في الشتاء، ليأخذ دور المنسق لعمليات الدور "بكتابة أرقام الواصلين بالتسلسل على أيديهم"، وبالرغم من أن هذه الطريقة "ما بتنفع دائماً"، إلّا أن العادة جرت ومنذ سنوات باتخاذ هذه الطريقة في كل مرة.
في الساعة السادسة صباحاً، كان رقم الدور قد وصل إلى (73)، ناهيك عن دور النساء، الذي يسجل أرقاماً خاصة به. يتوزع الأهالي على "جدران المحال التجارية": نساء تحملن أطفالهن، عربات لرضّع مرصوفة على الطرقات، أطفال يلعبون "ليلاً" وسط برد الشوارع وخطرها، ورجال يدخنون بشراهة، وأحاديث لا تنتهي عن الشائعات التي دائما ما تلقى أذناً صاغية، حول الشروط والطلبات والأوراق الرسمية للحصول على المساعدات، والتي "تتغير" وفق "أهواء المستفيدين وخيالهم"، يقول علي (واحد من المنتقدين لتلك الشائعات)، فمع "معرفتي بأن معظم تلك الأشياء لا تتعدى الشائعات، ولكني قمت بإحضارها كغيري من الناس، خوفاً من أن تكون صحيحة".
ما إن فتحت المراكز أبوابها حتى تدفق الناس، "متجاهلين أرقامهم"، أصوات تتعالى بالتزام دور الطابور تضيع سدى في الزحام، رجال ونساء يتزاحمون، وبكاء أطفال يطغى على المشهد… موظفو المراكز أغلقوا الأبواب "بحجة انتظام الدور"، رجل كبير في السن خطب بالناس "محاولاً تذكيرهم بما تبقى من إنسانية"، ردود كثيرة صادفته: "صرلنا من الساعة 12"، "أنا وقت جيت ما كان فيه غير تلاتة"، "صرلي يومين معطل ما رحت عالشغل"، "هاد مو عالدور"، "يا شباب كل واحد يحفظ دورو"…
بعض الأشخاص ممن وصلوا متأخرين يتلفتون حولهم لاقتناص فرصة للدخول، يضعون أيديهم في "جيوبهم الخلفية"، يراقبون ما يحصل؛ الشرطة التي استعان بها موظفو المركز "هددت وتوعدت"، ينتظم الدور لدقائق، وما إن يتم إدخال "بعض الأشخاص لا يتجاوزون الخمسة"، حتى يعود المشهد كما كان عليه في السابق، صراخ يعلو من بعيد لرجلين يتعاركان حول "دور الطابور"، لا تتدخل الشرطة، فقط تغلق الباب في انتظار "أن نذوق على حالنا"، يقول أحدهم. "البارحة كان هناك ازدحام أكبر، حتى النساء تعاركن فيما بينهن"، قال لي شاب متوسط في العمر "وصار شدّ الشعر"، ملوحاً بيديه مع ابتسامة خفيفة.
تتشابه طوابير السوريين في كل مرة، وفي غير مكان؛ فعلى دور "إذن السفر"، تجد الموقف متشابهاً، الوصول ليلاً "السمة الأولى للحصول على إذن سفر"، والأقلام الزرقاء والأرقام التي تملأ "أكف الموجودين"، وإن كان بشكل أقل، نظراً لقلة العدد مقارنة بدور المساعدات الإنسانية. "رجل الأمن" الذي يقف على باب الدخول لإعطاء "إذن السفر"، يفتح الباب لدقائق، يُدخل الدفعة الأولى التي لا تزيد عن 30 شخصاً، ليعاود إقفاله. دقائق طويلة تمرّ على المنتظرين خلف الباب، فحوى الكلام الذي يطلقه في كل مرة يخرج بها من مكانه الدافئ لتدخين سيجارة، أو للنظر في الوجوه المترقبة، "عليكم الانتظار حتى انتهاء الموجودين لأسمح لكم بالدخول"، وفي أفضل الأحوال "أن تأتوا بعد انتهاء فترة الغداء في الدفعة الثانية"، كثر يُحاولون التقرب منه، أحدهم يخرج "باكيته على عجل ليعطيه سيجارة"، آخرون يحاولون "بلغة تركية مكسرة إيصال فكرتهم، وشرح حاجتهم الماسة لإذن السفر"، وعندما يضيق ذرعاً الرجل "الذي لا يلبي نداء أحد" يكتفي بعبارة "سيستم يوق"، لينهي آمال الحاضرين الذين يبدؤون بمغادرة المكان تباعاً، وهم ينظرون إلى الخلف.
يبدو الأمر مشابهاً داخل المشفى الحكومي في الولاية، وإن كانت الحكومة التركية قد أطلقت رابطاً إلكترونياً للتسجيل مؤخراً، إلّا أن معظم السوريين لا يجيدون الدخول إليه. مئات من الأشخاص يجتمعون في البهو المخصص للدور على شكل مسارب، تشبه تلك التي كانت توضع أمام "أفران الخبز في سوريا". الأصوات تعلو في كل مرّة، النساء هن الأكثر عدداً، فالمشفى "مكان للعلاج وللسيران في آن واحد" تقول ظلال التي التقيناها في المشفى، تحكي غاضبة وهي تشير إلى واحدة من النساء بيدها "تخيل إن موظف الاستقبال أخبرها بعدم وجود طبيب عصبية لهذا اليوم"، فأجابته "عظمية بيصير"، وكأن القصة "مكسب"، تكمل ظلال. يُضاف إلى ذلك "رحلة البحث عن مترجم يردّ عليك"، وهو ما يخلق "طوابير من السوريين عند كل باب".
أما ما حصل في "دور الهلال الأحمر" فتلك قصة أخرى، يقول أبو محمد في بداية حكايته (حامل القلم الذي لم يتح له الدخول، ووقف متفرجاً وهو يرفع يده التي ظهر عليها الرقم واحد)، فحينها تم استخدام "مرشات المياه وحتى العصي" من قبل الشرطة لتنظيم الدور، دون جدوى أيضاً، يكمل "هناك من دخل عن طريق الواسطة، دون دور، وبعضهم عن طريق الرشاوى، لم نستطع الوصول إلى أحد (السماسرة)، ربما تكون تلك القصة ككثير من (الشائعات المتداولة)".
"لماذا يحملوننا مسؤولية ما يحدث" يقول المدرس سعيد الذي يرى أن المسؤولية الأكبر "تقع على عاتق المؤسسات والمنظمات"، فلماذا لا تكون "هناك روابط إلكترونية للتسجيل والاستفادة، ويتم من خلالها إعطاء أدوار للناس للمراجعة، أسوة بالأتراك أنفسهم"، ويتساءل عن سبب "وجود موظف واحد أو اثنين على الأغلب، ولماذا لا يضاعفون العدد عند كل استحقاق"، فالمدة الزمنية لتلك الخدمات "محدودة" والناس "تعاني ظروفاً صعبة"، وعليهم أن ينتظروا لأشهر على ضوء الطريقة المتبعة في تسيير الأمور، "ففي كل يوم يعطى إذن سفر لعدد محدود لا يتجاوز 50 شخصاً"، ومعظم السوريين في كيليس يعملون في ولايات أخرى، أو طلاب في جامعات مختلفة، أو يراجعون مشافيَ "يحولهم إليها مشفى الولاية"، وهو ما يشكل عائقاً كبيراً في تنقلاتهم، ويؤدي إلى الخلل والفوضى والبحث عن طرق بديلة.. لينهي حديثه، "فوق كل ذلك، عليك انتظار الموظف الوحيد لينهي كؤوس الشاي الكثيرة على طاولته".