طرق الزيارة الوعرة إلى منبج وشرق الفرات..

متداولة لأحد المعابر أثناء زيارة العيد

"أمي التي لا تزال ترتجف ما إن دخل أحد منزلنا بسرعة، أو سمعت صوت رصاص أو انفجار، يتبدل لون وجهها رغم أن ملامح الكبر ارتسمت عليه، أجزم أن دقات قلبها تزداد أكثر فأكثر كل ما سمعت اسماً يلفظه القادم إلينا.. لقد تعودت على الخوف، كانت فضلت الجلوس عند أخي في تركيا على العودة لمنبج، لكنها قررت أخيراً زيارتنا، وحين تجاوزت تلك الحواجز قالت.. أف أيمت أرجع لتركيا؟"

يسرد محمود لعين المدينة جزءاً من رحلة أمه القادمة من تركيا لزيارة عائلته وأخوته في إحدى قرى ريف منبج، ويقول "أمي لم تعد تشعر بالأمان في قريتها ولا في المناطق الأخرى، كانت تقول سابقاً قبل سيطرة قوات "سوريا الديمقراطية (قسد)" ومن قبلها داعش على المنطقة، أن أشكال المقاتلين كانت آنس من الآن، ولكن حتى المقاتلين في درع الفرات من الجيش الحر لم يعودوا كما كانوا من قبل، كل شيء تغير حتى شعورنا بالخوف والأمان تغير إلى غير رجعة".

يبقى تنقل النساء أيسر في معظم المناطق السورية حيث لا يُضيّق كثيراً عليهن، لكن المعضلة الأكبر تواجه الشبان الذين اضطروا لمغادرة مناطقهم في منبج وشرق الفرات هرباً من قرارات تعسفية من سلطة الأمر الواقع، حيث لم يتمكنوا من زيارة مناطقهم.

يقف عبد الله على شرفة منزله في مدينة عنتاب التركية يفتح في هاتفه الجوال مكالمة جماعية عبر الفيديو ليتصل بأمه وأبوه، يقول "كل عام وأنتم بخير، صحيح أنه العيد الثامن الذي لا أراكم فيه سوى عبر الهاتف، لكن تبقى نعمة" ترد عليه أمه "ابني هي البلد ما فيها شي، لا كهربا ولا مي مثل الخلق، حتى الهوى صار يخنق.." تحاول أن تعدله عن قرار المجيء لمنبج خوفاً من اعتقاله كونه كان يعمل بفصيل للجيش الحر، فيما يرد عليه أبوه "اشتغل أحسن من هالكلام الفاضي، لا تفكر بالنزلة، أصلاً نحن عم نفكر نطلع لعندك.." تنتهي المكالمة.

يقول عبد الله (25 عاماً) لعين المدينة، بأنه في كل عام يفكر في العودة لمدينته، لكن والده يمنعنه إضافة إلى ظروف المدينة. فعندما سيطرت قسد عليها داهموا منزله وبحثوا عنه واعتقلوا أحد أخوته ثم أطلقوا سراحه، "لازلت أرى الأمر معّقداً، لا طعم للعيد وسط كل هذه الفوضى".

وعلى طريق جرابلس الواصل إلى مدينة منبج ترجل موسى المحمد حاملاً حقائب كبيرة، حملته إحدى الحافلات ثم توقفت به على الخط الفاصل بين مناطق سيطرة الحر وسيطرة قسد قرب منبج المعروف بحاجز (عون الدادات)؛ من هنا يجب أن يمشي على الأقدام حاملاً حقائبه.

يروي عن شعور الخوف الذي راوده منذ لحظة الدخول من معبر قرقميش التركي المقابل لمدينة جرابلس حيث انفجرت حينها سيارة مفخخة وسط السوق فيها، وعثروا على ألغام ومتفجرات أخرى واتهموا بوقوف قسد وراءها، "لحظة وصولي حاجز قوات قسد بدأوا التفتيش، ثم أخذوني لغرفة صغيرة للتأكد من اسمي ومعلوماتي، كانت لحظات مرعبة بالنسبة إلي، لا أدري كيف أصفها، اعتقدت أني أخطأت الطريق وذهبت لمناطق النظام، لكن أسعفني وجود أحد العناصر الذي قال لهم أنا أكفله، إنه من منطقتنا".

ينقل موسى مما سمعه أن أكثر من ألف شخص يدخلون من هذا المعبر، يتعرضون للتفتيش والتحقيق رغم أنهم من أهالي مدينة منبج، ثم يخضعون للتفتيش مرة أخرى في حاجز مدخل المدينة، ويحتجزون لساعات حتى يكفلهم أحد أهاليها. "بكل صراحة، الناس ضاقت ذرعاً بهذا الحال" يقول الشاب. بالقرب منه يقف شاب تم توقيفه لأنهم "مسكوا عندي الكيملك التركي والإجازة وأخذوهن، وتعرف ما رح أقدر أرجع بدونهن"، هكذا لخص الشاب وضعه لموسى على عجل.

وبالفعل اعترضت معضلة أخرى المدنيين العائدين من تركيا إلى مدينة منبج، وهي البطاقات المؤقتة التي أصدرتها تركيا للاجئين "الكيملك"، حيث قام بعض عناصر قسد بإتلاف بعضها ومصادرته بحجة التبعية لتركيا، دون تقديم أي شرح لشكل التبعية التي يقصدونها.

لا توجد إحصائيات دقيقة حول المدنيين العائدين إلى منبج وشرق الفرات، لكن بحسب مصادر عسكرية من جرابلس بلغوا أكثر من خمسة آلاف شخص معظمهم عائلات، وقلة من الشبان الذين ذهبوا إلى منبج ربما لغير عودة.

في إحدى القرى شرق الفرات، وتتبع لمدينة منبج، كان اجتمع أهلها محتفلين بإطفاء أحد الحرائق التي نشبت فجأة في أحد الحقول صباح العيد، لكن عدم اكتمال نضج القمح ساعد في إيقاف وإخماد الحريق، لسوء حظها كانت أم محمود هناك. يقول محمود "عندما رأت أمي الحريق بدأت البكاء والصراخ، أرسلتني وأخوتي سريعاً لنساعد في الإطفاء، كانت تعتقد منذ عودتها أن فاجعة ستحصل".

تغيّر بقع السيطرة وشكل سلطة الأمر الواقع فيها، وفرض شكل وأسلوب جديد من الإدارة ضد رغبة أهالي مناطق منبج وشرق الفرات، حمل معه الكثير من الكره والحقد، خاصة بعد الموجة الأخيرة الكبيرة من الحرائق التي طالت أغلى ما يملكه الناس هناك، وتنذر بغضب كامن وانفجار كبير.