في أمسيةٍ للشاعر محمود درويش في أحد بلدان الشتات الفلسطينيّ، قبل أكثر من خمسةٍ وثلاثين عاماً، طلب منه الحضور إلقاء قصيدة «سجّل أنا عربي». ابتسم درويش وقال: «كتبت القصيدة في فلسطين المهدّدة يومياً بالاجتياح الصهيونيّ الذي يهدف، في أحد أشكاله، إلى محو الهوية العربية. أما هنا بينكم، بين أهلي، فلا..»، ولم يقرأها.
من القضايا التي فجّرتها الثورة السورية مسألة الهوية والانتماء في ظلّ التشظي المرعب لكلّ تشكيلات المجتمع إلى وحداتٍ صغيرةٍ جداً تتصارع أو تختلف لأسبابٍ سياسيةٍ وأحياناً مناطقية. في وقتٍ تحتاج فيه الهوية وتشكيلها -كما تفكيكها- إلى وقتٍ وجهدٍ كبيرين يشترك فيهما الجميع من مثقفين وقانونيين ورجال دين... أي إلى كلّ فعاليات المجتمع وآخرها السياسية، وليس العكس. بينما يكثر اليوم "سوق" التصريحات والبيانات والمواقف السياسية التي أقلّ ما يقال فيها إنها عفويةٌ وانفعاليةٌ إلى درجة الاضطراب والتناقض، ولكنها تؤسّس، عبر تراكماتها، لمواقف ليست في مصلحة بناء المجتمعات والدول. فالممارسة الأمنية العنيفة لأجهزة السلطة، وتغلغلها المرعب في جميع مفاصل الحياة حتى الصغيرة منها، جعلا من التفكك ملازماً للخلاص منها أو الالتحاق أكثر بالقبضة الأمنية.
كان واضحاً انقسام المجتمع السوريّ إلى تشكيلاتٍ طائفيةٍ مذهبيةٍ وأخرى عرقية، وأن الكثير من التصورات والحكايا المؤسّسة لعوامل الانفصال تسوده وصولاً إلى درجة الأحقاد. وقد احتلّ هذا الانقسام جميع المفاصل والزوايا، بل أصبح المحدد الأول للعلاقات المجتمعية العميقة من ناحية تفكيكها في حالتنا، لا في بنائها، بينما كان الانقسام السياسيّ الظاهر هو بين معارضة/ثوار ونظام/شبيحة. وبدلاً من التركيز على الهدف الأساسيّ للثورة في سورية، وهو الحرية بما تمكنه من تفكيك كل روابط الاستبداد المزمن، والسعي الهادئ إلى بناء روابط مجتمعيةٍ تقوم وتكفل الحرية والحقوق للجميع وبمشاركةٍ من الجميع؛ تراجعنا نحو التقوقع والعدائية تحت دوافع وأسبابٍ سياسيةٍ عابرة، فلم تكن الكثير من الأطراف السياسية بمستوى الوعي المطلوب (ولأسبابٍ طويلةٍ منها الاستبداد المزمن ومنها العقل النخبويّ الاستبداديّ) لمعالجة مثل تلك القضية أو الابتعاد عنها. فلم يكن الخطاب الضبابيّ لقوى المعارضة لكسب ود الطوائف "الكريمة" -كما تسميها- إلا شكلاً من أشكال التزلف والتقرّب بهدف كسبها إلى صفوف الثورة، وكذلك خطاب المعارضة المتناقض تجاه الأكراد، وعلاقاتها المصلحية المؤسّسة على المنافع و"التجميع"، مما كان له أثرٌ سلبيٌّ أكثر من إنجاز الهدف المقصود. فتلقت المعارضة السياسية، نتيجة ذلك، الكثير من الاتهامات، وصولاً إلى اتهامها بالطائفية من قبل أبناء الطوائف "الكريمة" أنفسهم، وخاصّةً "اليساريين" منهم، وبالتعصب القوميّ المعادي من قبل الأكراد ونخبهم السياسية. ولم تخرج كلتا التهمتين عن دائرة السياسيّ اليوميّ، لكنهما، في جانبٍ منهما، كانتا تؤسسان، بوعيٍ أو بدونه، لحفر خنادق فاصلةٍ أكثر، قابلها ما يُعرف بـ"الحزب" لدى الأكراد بسلوكٍ يعيد تجربة القوميين العرب بشكل أكثر تشويهاً ويكرّس لحالةٍ استعدائية. فعندما يتحدث أحد المعتقلين السياسيين، وكان قد أمضى حوالي (9) سنواتٍ في سجون الأسد في الثمانينات بتهمةٍ يسارية، ولكنه يعرّف عن نفسه حالياً بأنه أحد أعضاء حزب الاتحاد الديمقراطي في الخارج؛ عن حادثة نزع حجاب امرأةٍ من قبل عناصر حاجزٍ لحزبه في حيّ الشيخ مقصود بحلب، تلك الحادثة التي ذهب ضحيتها العشرات، قائلاً إنه يجب عليها أن تنزع حجابها، وإنهم لا يريدون "عاهراتٍ" بينهم في الحيّ، فهو لا يعبّر عن موقفٍ سياسيٍّ فقط، في وقتٍ يعرف فيه الجميع أن هجرة الأكراد إلى الحيّ وسكنهم فيه لم تتجاوز الأربعين عاماً، وأنها كانت ضمن الهجرة الريفية العامة نحو المدن، تلك الهجرة العشوائية بحثاً عن المعيشة من جانبٍ أول، ومن جانبها الآخر مقصودةٌ لترييف المدن وحكمها إثر الاجتياح "الريفيّ" للسلطة في السبعينيات، كما عبّر عنها الروائي حيدر حيدر في روايته "الزمن الموحش": "ها هم قادمون من الجبال نحو المدن كالوحوش". وأيضاً يكتب "الحزبيّ" ذاته، خلال معركة كوباني/ عين العرب، مادحاً انتصار حزبه، فيقول إنه لا بد أن يُضاف اسم "كوباني" إلى الأسماء المائة الحسنى لله! وهو بالطبع لا يختلف في هذا الحديث عن نظيره الشوفينيّ العربيّ، وكلاهما يؤسّسان لحالات العداء المجتمعيّ.
يبقى أن نقول إن السياسات اليومية عابرة، وإن اضطراب وضبابية خطاب المعارضة السياسية تجاه العديد من القضايا الوطنية ليس مبرراً ولا سبباً للشروع والمساهمة في المزيد من التفتيت في نويات مجتمعنا. بل المطلوب كسر روابط هذه الهويات المغلقة نحو روابط منفتحةٍ شرطها الأول الحرّية، الحرّية التي تؤسّس لفضاءٍ مجتمعيٍّ ينمو بشكلٍ سليمٍ ويتيح للجميع التعبير عن مطالبهم وحقوقهم بدلاً من التعبيرات الحزبية الضيقة، فليس الانتماء لقومٍ شرطه العداء لآخرين.