في الطريق من البوكمال إلى دير الزور يصادف المسافر عباراتٍ هنا وهناك، على جدران المدارس والدوائر الحكومية، تحمل طابع تنظيم الدولة. بالإضافة إلى لوحات فليكس كُتب عليها "فكوا العاني"، "معاً نرعى شجرة الخلافة"، "قرنَ في بيوتكن". ودعواتٌ إلى ترك التدخين والتزام الحجاب.
أكثر ما يلفت النظر بحجمه عبارةٌ مكتوبةٌ في مدخل مدينة البصيرة تقول "أمة واحدة راية واحدة دولة واحدة". وإلى جانب الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة التي يحاول التنظيم من خلالها إسناد حقّه في السلطة أو تدعو إلى الالتزام بالأخلاق -وبعضها كتبته فصائل مقاتلة أو منظمات أهلية قبل تمدّد التنظيم- تتقاسم باقي الجدران على طول الطريق عباراتٌ مكتوبةٌ بخطٍّ هزيلٍ تروّج لبيع المحروقات والمواد الغذائية ولوازم البناء وبعض الخدمات في محلاتٍ تنبت بشكلٍ جنونيٍّ على جانبي هذه الطريق التي تصل الشرق بالغرب، والتي تأتي بالبضائع وتذهب بالشباب.
لكن المسافر لا يعدم عباراتٍ تحمل أفكار ما قبل التنظيم، مثل "الحرّية ليست جريمة". بل قد يصادف علم الثورة أو عباراتٍ قديمةً باهتةً لكن متقنةً تمجّد ثورة الثامن من آذار والحركة التصحيحية وتحمل أقوال بشار الأسد. كما أن الدخول إلى أحد الدروب الجانبية قد يكشف عن عباراتٍ مناهضةً للتنظيم بدأت تظهر في الفترة الأخيرة. تقول إحدى هذه العبارات في مدينة الشحيل "زائلة بإذن الله"، وتقول أخرى "ولاية الدولار".
ما أن تقترب الطريق من مدينة دير الزور حتى تبدأ العبارات بالتكاثر والتنوّع والتعقيد، لكن تحت مظلة التنظيم. ففي محيط دوّار المعامل شماليّ المدينة، حيث خيضت في الماضي معارك كثيرة، صُفّيت جميع العبارات القديمة التي كتبها بمجملها أحرار الشام وجبهة النصرة وحزب التحرير، رفاق الأمس أعداء اليوم.
بدأت الكتابة على الجدران في المدينة مع بداية التظاهر، بعباراتٍ مناوئةٍ للنظام أو تدعو إلى الإضراب والتذكير بما يحلّ بمدينة حمص من جرائم. كما انتشرت العبارات التهكمية والمستهجنة صمت الحكام العرب. وقد اعتمد الثوار في الكتابة آنذاك على علب بخاخ الدهان السريع، رغم أن الأمن حظر بيعها وقتها. ثم أخذ الأمر يتطوّر في منتصف 2012، فكُتبت –على سبيل المثال- آيتان بشكلٍ متقنٍ على الجدران، هما }وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ{ و{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}. ثمّ، وفي نهاية العام، بدأ رسامون وخطّاطون هواةٌ ومحترفون ينشرون أفكارهم على جدران المدينة باستعمال الخط وفن الغرافيتي. وظهرت أعمالهم للمرّة الأولى في عبارة "حاصر حصارك لا مفر" بتأثير حملة النظام العسكرية. وبعدها بقليلٍ، وتحت ضغط انتشار الفتاوى التكفيرية، كتبوا في شارع التكايا آية {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَىٰ إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}. وكانت أول اقتباس قرآنيِّ يظهر على جدران المدينة بقصد المحاججة والردّ، ثم أخذت تتوالى الرسوم والعبارات المتجاورة من كلّ المشارب والتيارات. لتظهر، في بداية 2014، الآية {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} فوق جميع تلك اللوحات بتأثيرٍ من تنظيم الدولة في أوّل ظهورٍ لخلاياه.
قبل دخول التنظيم إلى المدينة بقليل بدأ لواء العباس، بالاشتراك مع خلايا التنظيم، بطمس العبارات والرسوم على الجدران باللون الأسود. وكردّة فعلٍ عليه قام بعض الناشطين بكتابة الآية {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ} على الجدران السود وبعض مقرّات جبهة النصرة. ليحسم التنظيم ذلك النقاش البصريّ بين الأسود والألوان الأخرى، فأكمل طمس جميع الجدران، وأحلّ مكان كلّ ما سبق عباراتٍ تدعم أفكاره، لابن القيّم أو ابن تيمية أو سيد قطب. وتحتلّ تصريحات العدنانيّ حيّزاً كبيراً في الفضاء البصريّ، ربما لوجود الكثير من عناصر لواء داود في المدينة. ومعلوم أن كليهما، العدناني واللواء، من مدينة إدلب.
لا تحمل الأيام أيّ بوادر لمقاومة التنظيم حتى في نطاق الفضاء البصريّ في مدينة دير الزور، باستثناء عباراتٍ ظهرت في بعض الأوقات تقول "الجبهة قادمة".. "الثورة مستمرة". وقد يكون ذلك بسبب انسحاب الناشطين من الحياة العامة وتوجّه الكثير منهم إلى تركيا، أو الخوف من ردّة فعل التنظيم القاسية. لكن، يبقى التقليل من شأن المقاومة السلمية تلك عاملاً حاسماً في اندثارها بهذه السرعة.