بوابة تل أبيض

عدسة معن | خاص عين المدينة

أمام المسافر من دير الزور إلى تركيا رحلتان؛ رحلةٌ إلى بوابة تل أبيض الحدودية، ورحلةٌ أخرى خلالها. فبعد (400) كم من طريقٍ طويلٍ لا يخلو من المخاطر، على المسافر أن يخضع لساعاتٍ طويلةٍ من الانتظار أمام البوابة. وقد يمتدّ هذا الانتظار المؤلم لعدة أيام، يضطر خلالها القادمون من المناطق البعيدة إلى النوم في العراء أو في بعض الأبنية المهجورة أو المساجد. وربما يذهبون إلى معبر جرابلس بأمل أن يدخلوا من هناك، أو يعودوا أدراجهم من حيث أتوا.
وبحسب التقديرات يبلغ عدد القادمين بغية الدخول إلى تركيا عبر بوابة تل أبيض ألفي شخص يومياً، لا يتمكن نصفهم في أغلب الأحيان من اجتياز الحدود. فإغلاق البوابة من الجانب التركي قد يحدث في أي لحظة، ولأي سبب. ويوماً وراء يوم تتلاشى التسهيلات التي أتاحتها السلطات التركية ابتداءً من الشهر التاسع في العام الماضي، وهو التاريخ الذي حُرِّر فيه هذا المعبر من سيطرة القوات الأسدية.
كثيرٌ من السوريين بلا وثائق سفر، وكان الجواز بالنسبة إليهم حلماً. فأسباب الحرمان من هذه الوثيقة، الطبيعية لأي فردٍ في أي دولةٍ في هذا العالم، كثيرةٌ في تقاليد المخابرات الأسدية. يضاف إلى ذلك قانون الخدمة الإلزامية الذي يحرم أي شخص من جواز السفر قبل تأدية هذه الخدمة في الجيش الأسدي. وبعد الثورة ازدادت أسباب الحرمان، وازدادت أكثر دوافع السفر خارج البلاد.
وعلى بوابة تل أبيض الحدودية يحاول عناصر حركة أحرار الشام، الذين يديرون هذا المعبر منذ أشهر، تنظيم حركة العبور، وفرز حاملي الجوازات عن سواهم من الذين لا يملكون هذه الوثيقة. فالدخول بدون جواز سفرٍ يكاد يصبح مستحيلاً مع التشديد في الإجراءات من الجانب التركي.
وتبدو هذه المحاولة صعبة جداً، رغم ما يبذله هؤلاء المقاتلون المؤدّبون في ذلك. فالمشكلة تكمن في أن السوريين لم يعتادوا الانتظام الطوعي للأسف، بل اعتادوا على وجود الشرطي أو عنصر الأمن الذي ينظّم كل شيء بالقوة والترهيب. وكما قال أحد قادة أحرار الشام في لحظة غضب أمام الفوضى الهائلة أمام البوابة: «كان عنصر أمن واحد من عناصر بشار، وبصوت واحد، يجبركم على الوقوف بالدور. وأما نحن، ولأننا لا نغلط بالكلام مع أحد، ولن نغلط أبداً، فلا تتعاونون معنا، وتسبّبون كل هذه الفوضى».
وتبدو هذه الخطبة عديمة التأثير، فكل أحدٍ يستثني نفسه من المسؤولية، ويصرخ أنه يقف هنا منذ الصباح، وأنه من أوائل الناس الذين وصلوا إلى البوابة. وهكذا يطول الوقوف، وتكثر القوائم المكتوبة، وتكثر التنقلات من بقعة إلى أخرى، في مشهدٍ يراقبه الأتراك ولا يخلّف لديهم انطباعاً جيداً.
وبين الجموع يظهر كثيرٌ من التجار الصغار، أو التاجرات من العجائز اللواتي يحملن أكياس الخضار والمواد التموينية والدخان لبيعها على الطرف التركي. ويظهر أيضاً عددٌ من الجرحى الذين يقفون صامتين تحت الشمس أو لائذين بظل جدار. وكذلك نجد الناشطين بحقائب الظهر ومحاولةٍ جادةٍ للحصول على استثناء دخولٍ سريعٍ قبل الآخرين (فوقتهم ثمين جداً، ولا يستطيعون التأخر عن موعد الدورة الإعلامية في إسطنبول أو عنتاب). وهناك أيضاً العائلات الهاربة من الموت والحرب والقصف، وقد حملت ما تستطيع من الأثاث المنزلي، وجاءت على أمل قبولها في أحد مخيمات النزوح، وهو أملٌ يتباعد يوماً وراء يوم، خاصة مع امتلاء جميع مخيمات اللاجئين وإغلاقها أمام النازحين الجدد. وفي هذا الجو الصعب يفقد كثيرٌ من الرجال أعصابهم، ويبدأون بإطلاق الشتائم على المقاتلين، ويتهمونهم بأنهم أسوأ من جنود بشار. مما يدفع المقاتلين في بعض الأحيان إلى تجميعهم في مقر الإدارة في ما يشبه التوقيف المؤقت الذي ينتهي فور عودة الغاضبين إلى هدوئهم، وإدراكهم أن مشكلة الازدحام هي أكبر من قدرة هؤلاء المقاتلين على حلها، فهي واحدة من مشاكل الحروب التي لا تنتهي إلا بتوقفها.