اعتدنا أن نكتب المراثي وصفحات التمجيد للأبطال بعد استشهادهم، وهذا حقهم وواجبنا، لكني سأكتب اليوم عن أبطال ثورتنا المرابطين على خطوط النار من خلال حكايات أحدهم الذي التقيته منذ عدة أيام.
ليست لهذا البطل المغمور أية مزايا استثنائية. فهو ربما لا يعرف أين تقع مدينة جنيف، لكنه يشتمّ روائح زنخةً تفوح من هناك لا تستطيع كل بارفانات العالم أن تغطي عليها. ولا يعرف هل الأولوية للسياسيّ أم للمعرفيّ عندما تناضل الشعوب لنيل حريتها من جلاديها. ويجهل الفرق بين المثقف العضويّ والمثقف التقليديّ. يحبّ أن يسمع سيرة عنترة وبطولات صلاح الدين. لم يقرأ "الثابت والمتحول" لأدونيس ولا "نقد العقل العربي" لعابد الجابري، وكذلك لم يقرأ الغزالي أو ابن تيمية. يُجلّ علي بن أبي طالب كما يُجلّ عمر بن الخطاب. لا يعرف طعم الشمبانيا والمكسّرات "الثقيلة"، لكنه يحلم بسلاحٍ ثقيلٍ يردّ به الأذى عن أبناء شعبه. عبارة "لغة خطابية" تجعله يحكّ رأسه ليفكّ أسرار معانيها، فما بالك بعبارة "لغة ريتوريكية"! ثقافته ليست "غربية" كحال بعض القياديين العتيدين في ثورتنا. يعشق منتخب بلاده بكرة القدم ويهوى الدبكة والرقصة العربية. سمفونيته المفضلة هي "الموت ولا المذلة". لم يلعب لعبة الكشتبان ولا لعبة الديالكتيك، سواءً الواقف على قدميه أم الواقف على رأسه. لم يضيّع عمره وهو يسأل ما العمل، بل شمر عن ساعديه وباشر العمل حين دقت ساعة الحقيقة. ولم يشغله كثيراً شكل التحالف المطلوب "أهو تحالف طبقاتٍ أم تحالف قوى ثورية؟". ولم يسمع بتحالف "قوى الشعب العاملة". ولحسن حظه لم تفتنه الليبرالية بشقيها "الأولد والنيو". ليس خبيراً بقضايا الإتيكيت، وقد يكون فظاً في بعض الأحيان إلا أنه دافئٌ وحنونٌ مع جميع من حوله. لم يكن أبداً طائفياً بل كان حريصاً، عندما تضرّر بيت أحد أصدقائه "العلويين" بقصف قوات النظام، على تأمين مكتبة هذا الصديق. هو الذي لم يقرأ يوماً غير القرآن الكريم وأحياناً جرائد الرياضة. لا يفكر كثيراً في شكل الدولة السورية القادمة؛ ما يهمه هو أن تكون دولة العدل والكرامة لكل أبنائها.
منذ بداية الثورة اختار الانحياز إلى صفّ "الغلابة" دون كبير اهتمامٍ للتفاصيل السياسية، فهو ليس محللاً استراتيجياً ولا أستاذاً في العلوم السياسية. سألني ذات مرةٍ عن الفرق بين المحلل الاستراتيجيّ ومحلل البول فقلت: "لا شيء سوى أن الأول شعر بالغيرة من الثاني فانتحل لنفسه صفة المحلل لأنها تدرّ ربحاً وفيراً بشوية ثرثرة وشخبطة ورسم مربعات ومثلثات. علماً أن أخطاء التحليل الاستراتيجي لا تترتب عليها أية تعويضاتٍ للمشاهد المسكين، عكس تحليل البول". ضحك وقال: "الحمد لله أنا مو من هدول ولا من هدول. أنا نجار بعرف بسوّي بواب وشبابيك كويسة ومسؤول عن جودة بضاعتي".
كان لقائي به لدقائق. لم يأتِ لأنه قائدٌ ميدانيٌّ يريد أن يقود المعارك عن بعدٍ كما يفعل بعض قادتنا الميدانيين المزعومين، وإنما أتى بإجازةٍ خاطفةٍ مرافقاً لأخته وأطفالها الصغار. نظراته إليّ كانت حزينةً وعاتبةً: "لماذا تتركون البلاد وقد اقترب موعد القطاف؟"، فردّت عيناي: "كي نصبح محللين استراتيجيين ومفكرين نَصِف شكل الدولة القادمة. ولكي نعرف مَن مِن الثوار حرف الثورة عن سلميتها وسرقها من أيدي سياسيينا الفطاحل وسلمها لأيدي (الغوغاء) الذين شوّهوا جمالياتها بأصوات بنادقهم، وحجبوا بشلالات دمائهم بريق ربطات العنق (الجنيفية)، واعتدوا على صلاحيات رئيس مجلس أمناء الثورة". هنا ابتسم محمود وكأني به يقول تميمة درويشية: "أحرقنا مراكبنا وعانقنا بنادقنا. لن نترك الخندق حتى يمرّ الليل".
أما أنا فمرّ أمامي شريط الذكريات. تذكرت يوم بكيت كطفلٍ وأنا أشاهد تشييع مجموعةٍ من الشهداء في موحسن، وبينهم الشهيد (أبو عرب) ابن مدينة حلب الذي أوصى أن يدفن في دير الزور؛ مكان استشهاده. وبكيت الآن مرةً أخرى، لكن بدون دموع، والسيارة تمضي بي مع الأمانة التي عهد بها إليّ محمود، إلى حيث السلامة والأمان، بينما هو وصقر وعلي وعبد الرحمن وأحمد وعبد الملك، والآلاف من المقاتلين المغمورين الذين أنبتهم ربيع بلادي، يعودون إلى خطوط النار مقاتلين أو إلى المقابر شهداء أبراراً ليصنعوا لنا يوماً لا تغيب شمسه.