أصبحت مواد التدفئة هاجساً مزمناً للسوريّ مع اقتراب كلّ شتاء، وخاصّةً في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وكان فقدان المحروقات، وغلاؤها في حال وجدت، سبباً جوهرياً للبحث عن حلولٍ بديلة توفر التدفئة؛ بعد أن لم يعد المواطن قادراً على تأمين المازوت والغاز وحتى الكاز الذي صار بديلاً شائعاً في الآونة الأخيرة.
لم يعد الفستق الحلبيّ ثمرةً غذائيةً فقط، ولكنه أصبح أيضاً إحدى أهم وسائل التدفئة، وخاصّةً في مناطق زراعته مثل ريف حماة. فقد ابتكر أحد سكان تلك المنطقة مدفأةً تعمل على قشر الفستق، وهي مكوّنةٌ من بطاريةٍ وخزانٍ ومنجنيقٍ يعمل بحسب العيار. وبعد اختراع تلك المدفأة لم يعد الأهالي يهتمون لقطع أو توافر مواد التدفئة من قبل النظام، فبقشر الفستق الذي يجنونه من محاصيلهم أصبحت تتوافر لديهم مادة التدفئة حتى نهاية الشتاء. كما يتمّ توزيع القشر على الذين لا يملكون أشجار فستق، أو الذين لم يتمكنوا من جني محصولهم.
يقول حسين الذي ساعد في إنجاز هذه الفكرة: "الحمد لله الناس تقبل بشكلٍ كبيرٍ على شراء هذه المدفأة. إنها خطوة جيدة جداً. ونحن، أهالي مورك وكفرزيتا والريف الشماليّ لحماة، اشتهرنا بزراعة شجرة الفستق الحلبيّ، والقشور متوافرة بشكل جيد. وباتت فائدة قشر هذه النبتة ملموسةً على تجارها وعلى السكان، فهي طاقةٌ حراريةٌ بديلةٌ ذات قيمةٍ عاليةٍ بامتياز، تعادل الفحم الحجريّ. وهي رخيصة نسبياً مقابل ليتر المازوت البالغ سعره كحدٍّ وسطيٍّ 150 ل.س".
وانطلاقاً من فكرة استثمار مخلفات الفستق الحلبيّ بدأ آخرون يبحثون عن بدائل مشابهةٍ، وخاصّةً في المناطق التي تفتقر إلى زراعة هذه الأشجار. فحاول الكلّ أن يجد بديلاً، مستغلاً ما يمكن أن توفره له منطقته. ففي المناطق الغنية بزراعة الزيتون كانت مخلفاته أحد أهمّ موارد الدفء للسكان. ويطلق على تلك المخلفات "العرجوم الأسود"، الذي تعددت تسمياته حسب المنطقة، ففي إدلب يسمى البيرين، والدق في اللاذقية، والتمز في جبلة، وأيضاً يطلق عليه الجفت والفيتورا.
وعن كيفية الاستفادة من بقايا تلك الثمرة حدثنا خليل دعبول، صاحب أحد معامل العرجوم في محافظة اللاذقية، قائلاً: "عمل أبي وجدّي بهذه المهنة منذ أيام الاحتلال الفرنسيّ، وتاريخها في عائلتنا يعود إلى عام 1935. قمنا بافتتاح مصنعنا الجديد عند مدخل مدينة اللاذقية من جهة الشمال. وتوجد أيضاً معامل أخرى بمدينة عفرين بريف حلب الشماليّ، وبريف إدلب".
أما عن طريقة تصنيعه يقول: "نجلب عجوة الزيتون من المعاصر. وفي الماضي كان يتمّ طحن العجوة وكبسها في آلةٍ تشبه مكبس السيارة فينتج عن ذلك مزيجٌ من الزيت والماء يذهب إلى الفرّازة لفرز الزيت عن الماء وبقايا العجوة، لكن المعاصر الحديثة التي نتعامل معها حالياً تطحن عجوة الزيتون حتى تصبح ناعمةً جداً، مضيفةً إليها الماء الساخن ليدخل بأسطواناتٍ تشبه محمصة القهوة. وبعد ذلك تدور الأسطوانات 3800 دورةً في الدقيقة تقريباً. وتسمّى هذه العملية "الطرد المركزيّ"، أي طرد مزيج الزيت إلى الفرّازات. وتظلّ عجوة الزيتون المطحونة في قاع الأسطوانة".
ويتابع: "نقوم بعدها بجلب هذه العجوة إلى مصنعنا ونضعها على الفور في المحمصة كي تجفّ وتتخلص من الرطوبة. ومن ثمّ نضيف إليها مادة "الكورسيم"، وهي مادةٌ محللة عضوية؛ كي نستخرج الزيت الذي يتمّ استخدمه في مواد التنظيف لأنه يحوي درجة أسيدٍ عالية. بعد ذلك نذهب ببقايا عجوة الزيتون إلى فرن الحرق الذي يكون بداخله الحطب للإشعال الأوليّ. بعد ذلك نخرجه بواسطة آلة كهربائية؛ لأن درجة حرارته تكون عالية جداً، فيصبح على شكل قوالب أو كمياتٍ مطحونةٍ ناعمةٍ جاهزةٍ للتوزيع على المحلات والبيع للمستهلك".
بابتكاراته هذه يكون المواطن السوريّ قد طبّق النظرية التي تقول إن الحاجة أم الاختراع. لقد تغلب على ظروفه وقهر شبح البرد، وأصرّ وما زال مصرّاً على البقاء، على الرغم من براميل وقذائف الأسد وبرد الشتاء.