يحاول سعيد أن يميّز الهدير الذي يخبو ويشتدّ بوتيرةٍ متسارعةٍ، ويرهف سمعه لعزل صوت مولّدة الكهرباء القريبة عن صوت مروحية الحوّامة.
شارك سعيد سابقاً في العمل المسلح في مدينة دير الزور. ورغم أنه لم يخض معارك حقيقيةً، لكنه هيّأ نفسه للموت في أية لحظةٍ وفي أيّ مكانٍ (وهو ما يردّ به على دعوة أقاربه له إلى النزوح). التجأ وزوجته إلى ممرٍّ داخليٍّ في البيت (موزّع)، دون تخطيطٍ أو اتفاقٍ مسبق. ثبّت نظره في السقف وكأنه ينظر إلى المروحية مباشرةً وهي تأخذ مكانها فوق بيته، وشعر أنه وحيدٌ تحتها. لم يسمع المضادّات الأرضية، مما زاد إحساسه بالعجز أمام الخطر المحدق. أحس بانقباضٍ في أحشائه ووخزٍ في مساماته ووجعٍ في مفاصله، وناء بضغطٍ يجذب جسده إلى الأرض.
لم تعد الصواريخ والقذائف الأرضية تشكّل أيّ فارقٍ بالنسبة إلى أهالي مدينة دير الزور، لاعتيادهم عليها (كما يؤكّد بعضهم لبعض). وقد فقدت، بكلّ الأحوال، كثافتها التي كانت عليها قبل تمدّد تنظيم الدولة. ولم تعد تسمع، في الغالب، إلا في سياق المعارك. لذلك يعيش الناس الآن بين الغارة والغارة على أملٍ غامضٍ بالخلاص، وينسون الخطر الذي يتهدّد حياتهم حين يبتعد أوان الغارة، مبدين ارتياحهم وشعورهم بالأمان حين يبدو أن الغارات تستثني المناطق السكنية. لكن ذلك لا يدوم طويلاً؛ فالغارات تضرب دون تمييزٍ في أكثر الأحيان، لتنتصب أمام الأعين بقايا الأبنية التي أسقطتها البراميل أو الصواريخ الفراغية على رؤوس أصحابها، وتذكّرهم بشكلٍ دائمٍ أنّ حياتهم في مهبّ الريح والحقد والجنون.
يرى بعض الإعلاميين، في محاولةٍ لتفسير حملة القصف الجويّ الأخيرة على المدينة، أنّ البراميل جاءت لوظيفةٍ تعويضية؛ فقد سحب النظام الكثير من عناصره إلى جبهاتٍ مشتعلةٍ في حلب وغيرها، ولسدّ الفراغ الناجم عن هذا النقص في القوّات لجأ إلى البراميل كرسالة تذكيرٍ بمدى تفوّق سلاحه وقدراته التدميرية. وقد جاء القصف بغاز الكلور -لأوّل مرّةٍ في المدينة- ليكمل هذه المهمة. هكذا قضى منذ أيامٍ زكريا هزّاع مع عائلته بغاز الكلور، بعد أسابيع من قضاء جميع أولاد أخيه أبو أمين بالبراميل. وقد بدأت حملة قصف البراميل الأخيرة على المدينة ومحيطها في 6 أيار الفائت وانتهت في 22 حزيران، بحصيلةٍ قدرها 35 برميلاً على الأحياء التي يسيطر عليها التنظيم في المدينة، و3 براميل على قريتي حطلة والحسينية، عدا تلك التي ألقيت في محيط المطار وحقل العمر. خلّفت الحملة عدداً يتجاوز 27 شخصاً من الضحايا المدنيين، بينهم 13 طفلاً و5 نساءٍ، والعشرات من الجرحى. ورغم المجزرتين اللتين خلّفهما البرميلان اللذان ألقيا على حيّ الحميدية وسوق حطلة، إلا أنّ الفزع الذي تركته براميل ما بعد الإفطار في رمضان هو الأكبر. حتى أنّ غالبية الأهالي جلسوا في بيوتهم ينتظرون قدوم الطائرة في موعدها -الساعة العاشرة- لأيامٍ. وأثناء ذلك يأخذ صوت البرميل وهو يسقط حيّزاً كبيراً في أحاديث السكان، فبعضهم يشبّهه بصوت "يويو" الأطفال، والبعض يشبّهه بصوت البوتوغاز أو صوت محرّك سيارةٍ قديمة، متناقلين القصص عن وهجه الذي أنار المدينة، وعن الهلع الذي يصيب حتى سكان القرى المجاورة عند سماع صوته.
في هذا الجوّ المشدود الأعصاب إلى حدّ اليأس، والمسكون بكلّ الاحتمالات، يخفق صوت البرميل في الجوّ فيجد سعيد نفسه صارخاً: "لَكَح لَكَح" (ألقى)، بينما تندّ صيحاتٌ من الجوار، بعضها يكبّر وبعضها يبتهل. ثم ينتبه إلى زوجته تكرّر: "برداً وسلاماً". إلى أن يحسّ بالانفجار ويسمع صوته المرعب، لتبدأ زخة الشظايا والأشياء الأخرى التي تتناثر بتتابع. حين يخرج من البيت يرى بعض الجيران قد توجّهوا إلى الشارع مستطلعين. ينظر إلى جاره نظرةً مبتسمةً ثم يبدآن بالضحك دون إصدار صوتٍ، إلى أن يقطع ضحكهما شابٌّ يركب درّاجةً ناريةً وهو يقول: "انفجر بالجوّ".